هناك تأويلات وانطباعات تظل فائضة عن اللوحات التي يعرضها سمعان خوام في معرضه الجديد «حبر، معدن، فحم وقهوة»، الذي تستضيفه غاليري Art Circle. تأويلات طالعة من ممارسات أخرى في الشعر والغرافيتي، ومن مزاج يحاول صاحبه العيش في صورة المدينة، والحفاظ على عزلة مقبولة منها أيضاً. القصد أنّ الرسم هنا غير محكوم بالاحتراف أو المهنة، بل هو ترجمة مقترحة لأشياء يمكن إنجازها باللغة والإعلان والشعر. ولذلك، يصعب وضع لوحات المعرض، كما لوحات معرضه السابق «كرسي، طاولة، والرجل العصفور»، في سياق معارض الرسم الأخرى. ما نراه هو نتاج قلق ذاتي وبحث مضنٍ عن طرائق تعبير لا تصل إلى نهايات مريحة. الرسم نفسه يبدو مثل مسألة شخصية لا تعني أحداً. تلاحقنا هذه الأفكار ونحن نتأمل أكثر من 60 لوحة صغيرة أغلبها منفّذ بالحبر على مربعات حديدية، ومعالَجتها بحفّ الكتلة المرسومة وتنظيف حافاتها. إنها ميني لوحات تشجعنا فوراً على تخيلّها موضوعةً على مكاتب شخصية وكومودينات منزلية. إنها «صغيرة كفاية لوضعها في يد طفل، وصلبة كفاية لإسناد جدار»، بحسب ما كتب الفنان نفسه في تقديم معرضه. الصلابة المفترضة في المعدن تواجه التكوين الهش للحبر.
يسمي الفنان ذلك محاولة خلق نوع من الهارموني بين عناصر الواقع القاسية وطراوة الأحلام. الكائنات المرسومة داخل المربعات المعدنية تعيش داخل هذا التوصيف، ويسمح لها التجاور والتلاصق على حائط واحد بأن تغمس وحدتها في مجتمع كامل يشبهها، ويجعل كل واحد منها نموذجاً متفرداً يتشارك مع أقرانه قتامة المعدن والحبر الكامد. الكائنات وحيدة وجامدة أحياناً، أو تقوم بحركة ما. في واحدة منها نرى فتاة تركض والهواء يدفع ضفائرها إلى الخلف، وفتاة تلعب بالحبل، وأخرى تلهو بطيارة من ورق، ونرى وجه رجل على رأسه تفاحة، ثم سمكة، ثم تُحمل السمكة نفسه عالياً بيدي الرجل الذي نراه مجدداً وعلى رأسه سلحفاة، ثم طائر، بينما نرى التفاحة وحدها تتكرر في خمس لوحات أخرى.
على جدارين آخرَيْن نرى لوحات أكبر قليلاً، لكنها لا تزال صغيرة أيضاً، الحبر هنا يحظى بصفاته الطبيعية، ونفوذه التعبيري العادي. يستريح الفنان من الضيق والقسوة المتوافرين في المعدن ومربعاته الصغيرة، بينما تقترب لطخات الحبر وخطوطه من مزاج الألوان المائية، فتنفلش بعض البقع الحبرية، أو تظل ملجومة ومتحفظة. الوجوه والأزهار المرسومة على الورق هذه المرة تكتسب صلةً أقوى مع «فن اللوحة» ومناخاتها، لكنها تظل على صلة قوية أيضاً مع زميلاتها المنجزة على المعدن. المعرض كله فيه شيء من الحيادية الفنية. يظهر ذلك في الألوان الخافتة والكائنات الملمومة على نفسها وفي العزلة المنبعثة من الوجوه والبقع والخطوط. هناك مديحٌ طفيفٌ للبشاعة والملامح العادية، ومديح آخر مبطّن للحياة اليومية التي يمكن أن نتخيلها لتلك الكائنات الشبيهة بالفنان نفسه. مديحٌ يصنع قرابةً لهذه التجربة مع تجارب شبابية أخرى تسعى إلى إبراز القبح الداخلي للكائنات، وإظهار ضجرها المديني وعزلتها الثمينة. إنها إعلاناتٌ لا طائل منها عن المزاج الشخصي ومذاقات السيرة العالقة في مدينة عالقة بدورها في حاضرها وعاجزة عن التحرك باتجاه المستقبل. يستفيد الفنان السوري المقيم في بيروت من قلقه بين هويتين، ويستثمر ممارسات فنية متعددة في سبيل أن يقول شيئاً أو يتلعثم به. كأن الرسم تصريفٌ لأفكار متفاقمة لا أمل في النجاة منها. ربما قيلت هذه الأفكار شعراً واحتجاجاً في ما مضى، وها هي تجد مسرباً لها في الرسم أيضاً.


* «حبر، معدن، فحم وقهوة» حتى 4 كانون الأول (ديسمبر) ـــ «غاليري آرت سيركل» (الحمرا). للاستعلام: 03/027776

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza