ليس طولُ العمر وحده ما جمع هنري بركات (1914ـــ 1997)، وتوفيق صالح (1926ـــ 2013)، ولا الوجود الراسخ في قوائم أهم المخرجين والأفلام في تاريخ السينما العربية. أكثر من ذلك يجمع المخرجين اللذين يكرّمهما «مهرجان طرابلس السينمائي»، منه أنّ السنوات العشر التي سبق بها الأول مولد الثاني، والفترة نفسها بين بدء نشاطهما الفني، لم تمنعا أن يشكّل النصف الثاني من الخمسينيات موعد تألقهما السينمائي. في عام 1955، يعلن صالح عن نفسه في «درب المهابيل» (سيناريو نجيب محفوظ). وفي 1959، يخلّد بركات اسمه في «دعاء الكروان» (عن قصة طه حسين). ها هو إذاً تشابه آخر: كلاهما وضع ثقته في الأدباء، اقتبسا منهم الدراما ليتفرغا لعناصر الإخراج.
تأتي ضرباتهما التالية في الستينيات لتؤكد المعنى نفسه. في مطلع العقد (1961)، يقدم بركات «في بيتنا رجل» عن رواية إحسان عبد القدوس، ويلمع بقوة في «الحرام» عن رواية يوسف إدريس (1965)، بينما يقتبس صالح «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم ( 1968)، بعد عام من «السيد البلطي» عن «زقاق السيد البلطي» رواية صالح مرسي، وعامين من «المتمردون» عن قصة لصلاح حافظ.
ثمة ملمح ثالث موحي في الخط نفسه. توفيق صالح لم يقتبس من محفوظ إحدى رواياته على غرار صلاح أبوسيف، بل استعان به كاتباً للسيناريو، تماماً كما اقتبس القصة لـ«المتمردون» من صلاح حافظ الذي عُرف كصحافي مشهور. ومن توفيق الحكيم الرائد المسرحي اقتبس رواية، تماماً كما فعل بركات مع ملك القصة القصيرة يوسف إدريس، فاقتبس منه «الحرام» إحدى رواياته القليلة.
هكذا يمكن القول إنّهما لم يركنا إلى الاقتباس السهل، المتوقع، بل بحث كل منهما بالضبط عما يريد، وهنا يبدأ التشابه في التراجع، ويبدأ التمايز. بعض ما كان يريده بركات كان موجوداً عند المرأة. وليس المقصود فقط ثنائياته العديدة مع فاتن حمامة (18 فيلماً)، من «دايما معاك» إلى «ليلة القبض على فاطمة» (1984)، مروراً بـ«لحن الخلود» (1962) و«الخيط الرفيع» (1971) و«أفواه وأرانب» (1977)، بل اعتمد ــ في حالة نادرة في السينما المصرية ــ على القصص التي كتبتها المرأة. من أشهرها، قدّم «الباب المفتوح» (1963) عن قصة للرائدة النسوية لطيفة الزيات. أما «القبض على فاطمة» فهي إحدى أربع حكايات ضمتها مجموعة قصصية للكاتبة سكينة فؤاد. والفيلم هنا جاء بعد عامين من تنفيذ مسلسل للمخرج محمد فاضل عن القصة نفسها، وهو تصرف نادر آخر، فالعادة كانت آنذاك أن يتبع المسلسل الفيلم، وليس العكس.
أما ما كان يبحث عنه توفيق صالح، فكان موجوداً دائماً في الجموع الذاهلة المقهورة، المغيبة الحائرة أو «المخدوعة». قد تكون حيّاً كاملاً أو شارعاً في «درب المهابيل»، أو مرضى المصحة النفسية «المتمرّدون» (1966)، أو الأشخاص الثلاثة «المخدوعون» (1972) في خزانة الشاحنة، عن «رجال في الشمس» لغسان كنفاني.
وعلى قلة أفلامه قياساً إلى عمره المديد، فقد تنقل بين مصر، وسوريا التي أنتجت «المخدوعون» والعراق «الأيام الطويلة ــ قصة هروب صدام حسين من السجن» وهي الوصمة السينمائية التي غفرتها له إبداعاته الأخرى. أما بركات فكان انتقاله لبنانياً، وفي ذلك نوع طفيف من العودة إلى الجذور، فابن حي شبرا القاهري من أصول مسيحية لبنانية، وهو في «عودته» المؤقتة قدم في عام واحد هو 1967 فيلمين من أفلام فيروز الثلاثة، هما «سفر برلك» و«بنت الحارس»، بعد عامين من فيلمها الأول «بياع الخواتم» لصاحب الأصول اللبنانية أيضاً يوسف شاهين.
وفيما يقال إنّ طه حسين لم يكن راضياً عن منح بركات دور «آمنة» في «دعاء الكروان» إلى الفنانة الشابة فاتن حمامة، إلا أنّه أعرب عن رضاه بعدما «شاهد» الفيلم، لكنّ «عميد الأدب» الضرير كان في جميع الأحوال محور الدعاية للعمل. بصوته العميق، أذيعت إعلانات الفيلم في دور السينما قبل عام من تأسيس التلفزيون المصري، ودخل الناس الصالات ليشاهدوا «رائعة طه حسين». من هنا يمكن ربما فهم تفضيل اقتباس الروايات لدى بركات وصالح، وغيرهما كصلاح أبوسيف. وُصف العرب كثيراً بأنهم «أمة لا تقرأ»، فربما يجدر التذكير بأنّ ثمة زمناً كان اسم الأديب سبباً لرواج شباك التذاكر، ربما دفعت قوة الأدب مخرجي الأفلام للتنافس معها بأفضل أدوات الإخراج. ومنها كانت موسيقى أندريه رايدر التي لا تُنسى، سمة مميزة لـ «دعاء الكروان» الفيلم، وتكاد ترتبط لدى أبناء اليوم حتى بالرواية المكتوبة.
غير أنّ الفارق الأهم، إلى حد النقيض، يبقى في الكمّ، في حجم العمل بين بركات وتوفيق صالح. يعدّ الأول من أغزر المخرجين ــ إن لم يكن الأغزر على الإطلاق ــ في السينما المصرية. في الأربعينيات وحدها، صنع 12 فيلماً أولها «الشريد» وآخرها «عفريتة هانم» (1949). في الخمسينيات، ضاعف جهده فصنع 24 فيلماً، ثم 10 أفلام في الستينيات، 23 أخرى في السبعينيات، و14 في الثمانينيات، وفيلماً وحيداً في التسعينيات هو «تحقيق مع مواطنة» (1993). «مشوار» لامس المئة فيلم، فأين هذه الأرقام من سبعة أفلام فقط صنعها رفيق تكريمه في طرابلس توفيق صالح؟ المشوار لا يقاس بالأرقام فقط. ها هما رأساً برأس في محافل التكريم وقوائم أفضل الأفلام، ومنهما «قائمة دبي» (راجع المقال المقابل) الأخيرة لأهم مئة فيلم عربي.

* تكريم هنري بركات:
عرض «في بيتنا رجل»: 14:00 يوم 11 تشرين الثاني ــ «جامعة بيروت العربية» مع ندوة وليد عوني حول الحداثة في أفلام هنري بركات
عرض «سفر برلك»: 15:00 يوم 12ت2
عرض «لحن الخلود»: 15:00 يوم 15 ت2
عرض «دعاء الكروان»: 15:00 يوم 18 ت2
* تكريم توفيق صالح مع عرض «المخدوعون»: 14:00 يوم 19 تشرين الثاني ــ الجامعة اللبنانية، بيروت، (الشويفات) و14:00 يوم 19 ت2، «جامعة القديس يوسف»



«يما» التي ماتت مرتين

ضمن مهرجان طرابلس أيضاً، يعرض شريط «يما» للمخرجة الجزائرية جميلة صحراوي. ننتقل إلى مشهد مؤلم وطويل لـ«وردية» وهي تحاول دفن ابنها طارق الذي قتل على الأغلب على يد أخيه علي المنتمي إلى إحدى الحركات الإسلامية في الجزائر. يطغى الصمت على الشريط حيث تروي لغة الجسد اللامحكي، ويأتي الحوار ليقطع الصمت فجأة، ما يزيد التوتر الدرامي. تعتمد المخرجة على الطبيعة التي تحاكي بصحراويتها قسوة الألم الذي تعيشه «وردية» وصعوبة الصراع الذي تعيشه في ظل هذه الحرب الدموية التي قتلت أول أبنائها فعلياً والآخر مجازياً.