«تاريخ الجسد هو تاريخ تفتّحه الشبقي». تختزل هذه العبارة محاولة شاكر النابلسي التأسيس لأنطولوجيا تسبر الجنس كظاهرة «ثقافية» في كتابه الجديد «الجنسانية العربية» (صادر في مجلّدين عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، بيروت). يسعى الباحث والكاتب الأردني إلى ضبط مصطلح الجنسانية كظاهرة جسدية ونفسية واجتماعية لتحديد دور الجنس في حركة التاريخ.
يستدعي المؤلف في المجلد الأول (الجنس والحضارة) نصوصاً تراثية تعود إلى الحضارات اليونانية (محاورات أفلاطون)، والرومانية (ملحمة أوفيد)، والهندية (كاماسوترا)، بالإضافة إلى أخرى فرعونية وجنوب أميركية ليؤسس للظاهرة الجنسانية عموماً. بعدها، يعود إلى النصوص التراثية الإسلامية في قراءة شاملة تغطّي نصوصاً من القرآن والحديث والمؤلفات الإيروتيكية التي ظهرت كـ«عودة الشيخ إلى صباه» و«الإيضاح في علم النكاح». يعود بعدها لنصوص القرآن والحديث لرسم علاقة الديني بما هو «شخصي/ جسدي» المتمثل في التشريعات التي أقرتها هذه النصوص ودورها في تدعيم موقف السلطة «الدينية/ السياسية» من الجسد، والتأسيس لتاريخ قائم على القمع وما ترتب على هذا القمع من سلوك وخطابات وسرديات.
كذلك، يستعرض النابلسي تاريخ الفعل الجنسي قبل الإسلام وأثناء الخلافة الإسلامية ليصف حاله وكيفية التعامل معه سراً وعلانية، وأساليب النكاح المختلفة، سواء تلك التي حرّمها الإسلام أو أبقى عليها، بالإضافة إلى دور المرأة ومكانتها، و«الاقتصاد الجنسي»، واستخدام السلطة السياسية له لشغل الناس عن السياسة رافعة شعار «دعه ينكح، دعه ينشط»، ضارباً أمثلة من الحضارة الرومانية ثم التراث المسيحي الذي كان متسامحاً ضمن النص الديني في وصف التفاصيل الجنسية («نشيد الانشاد» مثالاً) ثم الدور الذي أدته الكنيسة للسيطرة على الفعل الجنسي عبر «الإلزام بالاعتراف الذي يضاعف القدرة على التحكم بالحياة الجنسية عند الزوجين» و«المحافظة على الأخلاق الزوجية». بعدها، يعرّف المؤلف ممارسة النكاح عند العرب قبل الإسلام كنكاح «الشِغار والأمة والابتضاع» ثم ما حرّم الإسلام منه وما أبقى، والأساليب التي عمد عبرها إلى «تقنين الفعل الجنسي» في المنظومة الإسلامية الجديدة. ويعرّج على ظاهرة زاوج المتعة وتاريخها والظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى تحليلها ثم تحريمها وموقف الأفراد والصحابة من هذه الظاهرة، بالإضافة إلى زواج الجواري والأقنان والممارسات «الإسلامية المختلفة التي تودي إلى الجنس». ويصف النابلسي خصائص العربي الجنسية والآراء المتناقضة فيها، والدسّ الذي تعرضت له النصوص المقدسة في ما يتعلق بقدرة الرسول الجنسية وعلاقته مع نسائه ويطرح تساؤلات عن مدى صدقية هذه الأحاديث.
وفي المجلد الثاني (متعة الولدان وحب الغلمان)، يوضح النابلسي الفرق بين الجنس كمفهوم اصطلاحي/ علمي، وكظاهرة ثقافية تنتشر ضمن سرديات وممارسات الديانة الإسلامية و«الانهماك الجنسي» الذي قد يتجاوز النصّ وحكمه إما لمصلحة السلطة، أو لمصلحة التجربة الروحية كحالة المتصوف محيي الدين بن عربي الذي «لاحظ وجود الخنثى في الإنسان». ويفتتح الفصل الأول بدراسة «العالم والجنس» ضمنَ حديثٍ عن الحضارة العالمية ثم العربية وطباع العرب وبيئتهم وممارساتهم الجنسية وتفسيراتها، حيث تم الربط مثلاً بين البيئة الجغرافية التي تحيط بالمسلم/ العربي (ابن الصحراء) وانعكاسها على التعبير اللغوي وتعدد الأسماء للشيء الواحد، بالإضافة إلى تنوع أساليب التعبير الشعري. تحت عنوان «الجسد العربي نتاج صحراوي»، يحاول النابلسي أن يحيط بالخصائص «الفيزيولوجية» العامة التي تميز الإنسان العربي وتكوّنه وترتبط بنمط حياته القائم على الحرب والترحال والرعي، وكثرة أوقات الفراغ التي جعلت شاغله الجنس. ويشير إلى ندرة النصوص الجنسية التي وصلتنا من مرحلة ما قبل الإسلام واقتصرت على أشهر الشعراء كامرئ القيس وغيره. بعدها، يبرز الكاتب الخطاب الحضاري المتمثل في الذكورية (المرحلة البطريركية) التي أقصت الأنثى جسداً ونصاً، مشيراً إلى تعدد الزوجات (أربع) بوصفه «نقلة في طريق تحرير المرأة من الارتهان الذكوري» الذي لم يعرف عدداً محدداً للزوجات سابقاً، رغم منع المرأة من الزواج إلا برجل واحد. كذلك، يشير إلى العلاقة بين الآباء والأبناء التي تتحدد حسب نوع «النكاح»، فابن الجارية أو الأمة مختلف عن ابن الحرة. كذلك، يتطرّق إلى ظاهرة الاغتصاب، والمثلية الجنسية وأماكن انتشارها، مستعرضاً النصوص التاريخية التي تتعلق بها والمواقف المختلفة التي تبنى على هذه الممارسة، بالإضافة إلى الموقف الثقافي المرتبط بها نصاً وفعلاً. ويذكّر بما كان يتعرّض له ممارس هذه «الفاحشة» في تلك الفترة بوصفه «يتخلى عن وظيفته كمنتج في مؤسسة المجتمع»، بالإضافة إلى استعراضه الممارسات التي تتعلق بمتعة الغلمان والفتيان وانتشارها وبعض الآراء التي رأت أنّ ممارستها تؤدي إلى «سقوط الإمبراطوريات». ويذكر بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الظواهر، كالفتح الإسلامي والاختلاط مع الحضارات الأخرى، والرخاء والنعيم الذي حلّ في البلاد، وانعكاساتها شعراً ونثراً وممارسةً، والاعتماد على أطروحة «الجسد سوق اقتصاد المعنى» والتحولات التي يأخذها في علاقته مع ما هو مادي وما هو غير مادي مثل تجربة المتصوفة.
يفرد المؤلف فصلاً كاملاً يستعيد تجربة أبو نواس «الشاعر اللوطي» ــ بحسب تعبيره ــ من وجهة نظر «أركيولوجية» تمسّ النصوص التي أنتجها أبو نواس وتلك التي دارت حوله وأثّرت في إدراكنا له وعلاقته مع السلطة، سواء كانت قمعية أو قائمة على الإباحة، وعلاقة هذا الميل الجنسي بالإبداع.
يتطرق النابلسي لاحقاً إلى دور المرأة في المجتمع، والخطاب الذي ولّدته قديماً وحديثاً ويناقش تجربة كاتبات معاصرات مثل نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، ويشيد بإنجاز المرأة في السعودية بوصفها قدمت «بشارة» الأدب الإيروتيكي عبر نصوص كاتبات سعوديات تتعلق بحياة المرأة وعلاقتها بجسدها.
يختتم النابلسي المجلد الأول بملحق يتضمن مقالات عن العلاقة بين الفقهاء والنساء وأخرى تتعلق بالتربية الجنسية دينياً وعلمياً مع مختارات للشاعر اللبناني أنسي الحاج، فيما اختتم المجلد الثاني بمقالات تتعلق بمواضيع الختان، وأسئلة فقهية/ جنسية فرضتها طبيعة المجتمع المعاصر، بالإضافة إلى موقف المسيحية من الجنس.