في العيد الخمسين لـ «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، خصّصت الأخيرة عدداً (96 ـ خريف 2013) من مجلّة «الدراسات الفلسطينية» للوقوف على معجزة ثقافية أنجزها روّاد الأدب الفلسطيني المعاصر، والإضاءة على أصوات جديدة في الأدب الفلسطيني، إيماناً منها بفلسطين جديدة توشك أن تولد للخروج من المتاهة التي كادت أن تضيع فيها القضية بعد أوسلو.من هنا، استعاد العدد الخاص إحدى القامات الأساسية في تاريخ الأدب الفلسطيني. تحت عنوان «اميل حبيبي: حوار قبل عشرين عاماً»، تطرّقت المجلة إلى «المتشائل» (1921 ــ 1996) عبر حوار قديم غير منشور أجراه معه محمود شريح في فيينا عام 1993. وإن كان حبيبي يروي سيرة الطفولة والحياة والموت والأدب والإرهاب الستاليني وانحسار الشيوعية وانقلاب الرفاق عليه، فإنّ استعادة هذا الحوار يرمي إلى الإضاءة على كاتب وسياسي عاش حياته منتصراً للقضية وللإنسان. كان قائداً وساخراً، لكنّه في كل أطواره، كان ساحراً، هو الذي طلب أن يكتب على قبره عند وفاته «باق في حيفا».

في هذا الحوار الذي أجري معه قبل وفاته بثلاث سنوات، شرح حبيبي مواقفه السياسية، ونظرته إلى الأدب وعلاقة المثقف بالسياسة، وحمّل نفسه مسؤولية انقسام الحزب الشيوعي الفلسطيني، حين رأى أنّ اليهود لم يعودوا مجرد أفراد في فلسطين، بل أصبحوا أمّة في طور النشوء، فكان طرده من «منظمة القدس»، ومن «منظمة تل أبيب» لقوله في البيان إنّ «الحزب الشيوعي الفلسطيني هو حزب عربي واليهود انضموا إليه كأفراد».
تحدّث حبيبي عن إعجابه بخالد بكداش وتأثره بأفكار رئيف خوري، الذي يُعزى له الفضل بتعريفه ورفاقه إلى الشيوعية، وتأثّره بكتابة مارون عبود التي أوحت له بالسخرية التي وسمت كل مؤلّفاته لاحقاً. وفي خضم موقفه النقدي من تجربته الطويلة، لا يجد حرجاً في تحميل نفسه والقادة السياسيين مسؤولية المصير المأساوي للشعب الفلسطيني «لأنّنا في مسار كفاحنا السياسي الصعب والعنيد أهملنا ضمير الشعب». أمّا ملف العدد «وليد الخالدي: تحية»، فقد جاء كتحيّة متبادلة بين المؤسسة وأحد مؤسسيها الذي رافقها وما زال: إنّه المؤرّخ وليد الخالدي (1925) الذي اكتشف باكراً أنّ مقاومة الغزو الصهيوني لفلسطين لا تستقيم من دون معرفة علمية دقيقة وبناء وعي عربي وفلسطيني جديد للنكبة. لعل أهم ما تؤدّيه هذه التحية في هذا الوقت هو دحض الاتفاق العام في الغرب واسرائيل على أنّ المؤرّخين الإسرائيليين الجدد (سيمحا فلابان، توم سيغف، آفي شلايم، إيلان بابه) كانوا أوّل من طرح علمياً مسألة طرد الفلسطينيين من أرضهم. الدراسات الثلاث التي نشرها الملف لوليد الخالدي (نشرت سابقاً باللغة الإنكليزيّة من دون تعريبها)، تؤكّد أنّ الخالدي هو المؤرّخ الذي كان أوّل من كشف «خطة دالت» وحلّلها. وهي الخطة الرئيسة التي وجّهت عمليات الهاغانا العسكرية، كما أنّ قراءته لسقوط حيفا، ودراسته لمخطط هرتزل لاستعمار فلسطين جاءتا لتستكملا نجاحه العلمي في التصدي لأكذوبة الأوامر العربية للفلسطينيين بإخلاء أرضهم. في الدراسة الأولى «الشركة العثمانية - اليهوديّة للأراضي: مخطط هرتزل لاستعمار فلسطين» التي نشرتها مجلة «الدراسات الفلسطينية» سنة 1991 في نسختها الإنكليزيّة التي تصدر في واشنطن، يقدّم الخالدي قراءة مستفيضة للمشروع الاستعماري الصهيوني، الذي حاول هرتزل تسويقه للباب العالي خلال زيارته إسطنبول في 1901و 1902. أشار مشروع هرتزل إلى مفهوم «الترحيل» في ما يتعلّق بسكان البلد الأصليين، كما تضمّن نص ميثاق الشركة النسخة الاوليّة لأهداف المشروع الصهيوني ووسائله.
أمّا الدراسة الثانية «خطّة دالت مجدداً» التي نشرها الخالدي سنة 1961في مجلة Middle East Forum وأعاد نشرها عام 1988 في «الدراسات الفلسطينية» بنسختها الانكليزيّة، فتحمل أهمية استثنائية لأنها أظهرت وحلّلت المخطط الأساسي لاحتلال فلسطين، وكشفت أنّ المشروع كان في وعي مؤسّسيه مشروعاً استئصاليّاً. وبذلك يدحض السردية الإسرائيليّة، ويقدّم لسردية الضحية الفلسطينية الأساس العلمي الذي تستند إليه.
وفي الدراسة الثالثة «عودة إلى سقوط حيفا» المنشورة في مجلة Middle East Forum عام 1959، ومن ثم في مجلة «الدراسات الفلسطينيّة» بنسختها الانكليزيّة عام 2008، يشرح الخالدي التطبيق العملي لـ «خطة دالت»، ويكشف التواطؤ البريطاني على تسليم حيفا للهاغانا. ويرصد بالتفاصيل وعلى الخريطة وقائع سير المعركة التي أدت إلى سقوط المدينة، محللاً موازين القوى ليكشف الضعف العربي والفلسطيني المخيف.
ربّما تعدّ الدّراسات الثلاث بمثابة التحيّة من الخالدي إلى المؤسّسة التي أمضى حياته في خدمتها. ردّت المجلّة التحيّة بمثلها عبر مقالين: الأوّل لبيان نويهض الحوت تحت عنوان «وليد الخالدي المؤرّخ والإنسان». تحاول الباحثة والكاتبة الفلسطينية مقاربة المسيرة الفكرية الطويلة لوليد الخالدي، متوقّفة عند المحطات الأهم من حياته، التي أسهمت في التأريخ للقضية الفلسطينية بوصفه الكاتب والمؤرخ والقدوة والراعي الأمين لتاريخ النضال العربي الفلسطيني المعاصر. أمّا المقال الثاني، فكتبه بشير موسى نافع بعنوان «التاريخ يكتبه المؤرّخون». هنا، شرح أثر كتابات الخالدي على الأجيال الفلسطينية، وسرد جزءاً من مسيرته العلمية والفكرية، هو الذي استقال من موقعه التعليمي في «جامعة اكسفورد» احتجاجاً على التورط البريطاني في العدوان الثلاثي على مصر، ورؤيته إلى القضية الفلسطينية على أنّها صراع عربي اسرائيلي، فيما شهدت سبعينيات القرن الماضي صعوداً غير مسبوق للوطنية الفلسطينية، وصولاً إلى الأسئلة التي تشغل بال الخالدي اليوم وأهمّها: هل عرب ما بعد حركة الثورة قادرون على إعادة بناء نظام عروبي إقليمي فاعل، واحتواء الانفجارات الإثنية والطائفية التي أحدثها تحلل الدولة وصعود الإسلام السياسي؟

عدد استثنائي يتسع للأصوات الجديدة




بعد استعادة ركنين فلسطينيين من أركان الثقافة والفكر هما اميل حبيبي ووليد الخالدي، ذهبت مجلة «الدراسات الفلسطينية» في عددها الخاص إلى الإضاءة على الأصوات الجديدة في الثقافة الفلسطينيّة إيماناً منها بأنّ الثقافة هي المكان الذي يمتلك اليوم القدرة على استعادة الموضوع الفلسطيني من الانحطاط الذي يحاصره. وبناءً عليه، نشرت أربع مقالات لأنطوان شماس، الذي أعاد اكتشاف الشاعر الفلسطيني طه محمد علي، والتشكيلي المعروف كمال بلاطة، الذي قرأ تجربته الفنية من خلال رؤيته للقدس عبر رحلة لونية بين المدينة والمنافي لإعادة انتاج رؤية للمستقبل عبر إشارات المكان وتداعياته في الذاكرة. أما فخري صالح، فقدّم دراسة حول أصوات فلسطينية جديدة في القصة والرواية، باحثاً عن مآلات السرد الفلسطيني، فيما استعاد رئيس تحرير المجلة المشارك الياس خوري سيرة الشاعر الفلسطيني راشد حسين (1936 ــ 1977) الذي يصفه الروائي اللبناني بالغائب الحاضر، مؤكداً أهمية حضوره داخل المشهد الشعري والثقافي الفلسطيني بدءاً من مرحلة الإلتباس الثقافي والسياسي على أرض فلسطين، وصولاً إلى وفاته في مانهاتن. وتعيد المجلة نشر مجموعة من نصوص حسين الشعرية كتحيّة إلى إنسان نبيل وشاعر كبير يمثّل جزءاً من الذاكرة الفلسطينيّة.
وفي الخطّ ذاته، واصلت المجلة نشر دراسات تنتمي إلى أصوات جديدة بدأت تحتل الفضاء النقدي الفلسطيني. هكذا، كتب عبد الرحيم الشيخ عن «تحولات البطولة في الخطاب الثقافي الفلسطينيّ»، واسماعيل ناشف عن «موت النص»، وهنيدة غانم عن «المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني». ووصلت المجلّة إلى بغيتها من خلال نشر مجموعة من الأصوات الأدبية الجديدة عبر شهادات لكتّاب فلسطينيين جدد كتبوا شهاداتهم انطلاقاً من أسئلة حرّرها الكاتب والقاص علاء حليحل. جاءت الشهادات بصوت كل من: أكرم مسلّم، أنس أبو رحمة، سمر عبدالجابر، عاطف أبو سيف، علاء حليحل، سامر خير، راجي بطحيش، طارق الكرمي، عدنية شبلي، ومايا أبو الحيات. ونشرت مجموعة جديدة من النصوص الأدبية لابتسام عازم، إياد البرغوثي، إسراء كلش، هشام نفّاع، نجوان درويش، نصر جميل شعث، أنس أبو رحمة، طارق الكرمي، ريم غنايم، وعلي مواسي.
في هذا العدد الخاص، حاولت «الدراسات الفلسطينية» بناء الجسور بين الأجيال الفلسطينية، مسلّطة الضوء على أصوات أدبية ترسم اليوم المشهد الثقافي، مستفيدة من أسس وقواعد رسّختها مجموعة من القامات الفلسطينية التي أمضت حياتها ترسم معالم الطريق لثقافة وجدت فيها المكان الأفضل للتعبير عن قضاياها الأساسية في مواجهة الغزو الصهيوني، فهو المكان الذي نجح بعد نكبة 1948في انتشال الاسم الفلسطيني من وحل التاريخ، واعدةً قراءها بمتابعة بحثها الاستقصائي المتعدد في أعداد لاحقة في مجالات الفنون البصرية، والسينما، والمسرح، والفلسفة وعلم النفس والعلوم الإنسانية المختلفة.
رامي...