مات محمد دكروب (1929 ــ 2013) أمس. مات شيخ الشباب والكاتب والناقد العصاميّ الذي ثقَّف نفسَه بنفسه. الفتى الذي ترك المدرسة باكراً كي يساعد والده في دكان الفول، ثم في العمل سمكرياً وبياعاً للترمس والورد، لم ينقطع عن شغفه بالقراءة والذهاب إلى صالات السينما في صور. من المدينة الجنوبية، أخذه الراحل حسين مروة إلى دكان لبيع الورق في بيروت، وعرّفه على قادة الحزب الشيوعي اللبناني، وعلى العديد من كتّاب ومثقفي العاصمة.
من تلك العجينة الحياتية والذاتية والماركسية، بدأ دكروب بكتابة قصص واقعية مخلوطة برومانسية تحاكي قراءاته في تلك الفترة من خمسينيات القرن الماضي. المجلات المصرية (وخصوصاً مجلة «الكاتب المصري» التي كان يصدرها طه حسين) والكتب الماركسية لاحقاً، جعلت تلك القراءات تبدأ باكتساب طبقات فكرية وثقافية وسياسية. التأثير المصري، وأثر عميد الأدب العربي بالتحديد، صنعا جانباً أساسياً في مسيرة دكروب، بينما قربه من الحزب الشيوعي اللبناني، ومن صحافة الحزب ومثقفيه صنع الجانب الآخر.
هكذا، ظل الشيخ الثمانيني مديناً لهذه التربية التي تطورت وانعطفت داخل محيطها نفسه وفي جوارها القريب. تربيةٌ يمكن القول إنها منحته انتماءً نهضوياً وتنويرياً، وجعلت جهوده النقدية والثقافية جزءاً مستقبلياً بمفعول رجعي من تراث مفكري النهضة في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين.
صاحب «جذور السنديانة الحمراء» هو بالولادة سليل المدرسة اللبنانية التي ضمت بطرس البستاني واليازجي والشدياق، ثم توفيق يوسف عواد ورئيف خوري والعلايلي وحسين مروة وغيرهم. وهو بالميول الثقافية، سليل المدرسة المصرية التي ضمت طه حسين وسلامة موسى ويحيى حقي ويوسف إدريس وغيرهم. لقد استأنف دكروب مناخات هاتين السلالتين، وظلت مقالاته وممارساته النقدية تغرف من الاحتياطي الذهبي لتلك الحقبة النهضوية ومنجزات كتّابها ونبراتهم وأفكارهم التقدمية. عمله في مجلة «الثقافة الوطنية» (1952 ـــ 1959)، ثم في مجلة «الطريق» (تأسست عام 1941) التي ارتبط اسمها باسمه حتى رحيله، كان استمراراً لتلك التربية النهضوية من خلال علاقته بالأجيال اليسارية والتنويرية التي جاءت لاحقاً، والتي تدين بالكثير لـ «الطريق» وثقافة «الطريق» وسياسة دكروب في تحرير المجلة، التي كان يقول إنها «خليّته الحزبية» التي فضّلها على الاجتماعات التنظيمية.
اخترع محمد دكروب نصه النقدي ومزاجه في الكتابة. ومثلما كان «شيوعياً على طريقته»، كان ناقداً على طريقته أيضاً. صحيحٌ أن الميول الماركسية واليسارية ظلت تلمع في الفناء الخلفي لممارسته النقدية، إلا أن ذلك كان جزءاً من كتابة طيِّعة تنفر من التنظير البارد، وتحاول أن تتحرر من التعسّف الذي التصق بالواقعية الاشتراكية في طبعتها السوفياتية. كتابةٌ تنطلق من عناصر وجزئيات واقعية وأدبية وحياتية يجدها (أو يكتشفها ويطوّرها) في النصوص والمؤلفات التي كتب عنها، وفي حياة وسِيَر وأفكار أصحاب تلك المؤلفات. بهذا المعنى، كان دكروب راوياً وحكواتياً بارعاً في النقد، وصاحب «سرديات نقدية» كما وصفته الناقدة يمنى العيد، وكان في شغله شيءٌ من «السمكرة» التي اشتغلها في صباه كما قال عنه الراحل عبد الرحمن منيف. كان دكروب يصنع نوعاً من «الصحبة» مع الكتب والشخصيات التي يتناولها، ويصنع «صحبة» موازية مع القارئ أيضاً. كانت الكتابة عن الآخرين تتجاوز النقد إلى نسج بورتريهات تحضر فيها نصوص ومنجزات هؤلاء إلى جوار وقائع وتفاصيل من الزمن الذي عاشوا فيه، ومن صداقاتهم وتأثراتهم بغيرهم، ومن أسرار وأخبار كان دكروب نفسه شاهداً عليها. بورتريهات تحتمل السرد والحوار والفلاش باك والعودة مجدداً إلى السياق، ومزج ذلك كله بالتوثيق التاريخي والاقتباسات. كأن دكروب كان يعوّض توقفه الإرادي عن كتابة القصة القصيرة بعد صدور مجموعته اليتيمة «الشارع الطويل» (1954)، بتسريب موهبته المطويّة إلى مقالاته وكتاباته النقدية، ومنحها مذاقاً قصصياً وروائياً، مازجاً ذلك بالـ «الإمتاع والمؤانسة» بحسب عنوان كتاب أبي حيان التوحيدي. لقد حصَّل دكروب ثروته النقدية من القراءة ومن الخبرة الحياتية وصداقات مجايليه من المثقفين والمفكرين. ولعل الصداقة هي البطلة الخفية في أعماله، وخصوصاً في كتابيه «شخصيات وأدوار في الثقافة العربية» (1981)، و«وجوه لا تموت» (1999 ــ دار الفارابي). صداقةٌ مؤلفة من الكلمة والموقف والحلم بتغيير العالم والواقع. أغلب هؤلاء الحالمين الذين كتب عنهم دكروب رحلوا قبله، تاركين لديه حكايات معروفة وأسراراً مجهولة. بطريقة ما، يمكننا الحديث عن «شجرة دكروبية» مكونة من أسماء الكتاب والمفكرين والمناضلين الذين عرفهم أو قرأ لهم، إضافةً إلى الذين كتبوا في «الطريق». شجرةٌ يمكن أن تشبه تلك «السنديانة الحمراء» التي أرّخ فيها دكروب لنشأة الحزب الشيوعي اللبناني، لكنها شجرة بثمار مختلفة ومتعددة باختلاف هويات تلك الأسماء الموزعة على خريطة الوطن العربي كلها. شجرةٌ كان دكروب سعيداً بعودة حاضنتها إلى الصدور مجدداً بعد توقفها سنوات. كانت «الطريق» بيته وحلمه و«رفيقة دربه» تقريباً. انشغاله بإعادتها إلى الحياة كان يؤخر مشاريعه المؤجلة أصلاً. في لقاءاتنا الأخيرة معه، كان يتحدث عن وجود خمسة كتب مخطوطة لديه، لكنها تحتاج إلى رتوش وترتيبات بسيطة لتصبح جاهزة للنشر، منها كتاب «على هامش سيرة طه حسين»، الذي نأمل ألّا يتأخر نشره، مع كتبه الأخرى، بعد غيابه.
رحل ابن «الثقافة الوطنية» الذي تربى على فكر النهضة والماركسية، لكنه انضم إلى «وجوه لا تموت». لقد عاش برفقتهم طويلاً في الكتابة، وها هو في صورة نتخيلها بالأبيض والأسود يأخذ مكانه بينهم على مقعد الغياب الفسيح.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza