القاهرة | مَن يسِر في بلادنا العربية، يلاحظ حتماً أجسادنا وفضاءاتنا العامة ـــ والخاصة أيضاً ـــ وما تعرّضت له من سياسات الجسد والمكان، تارة باسم التكنولوجيا وأخرى باسم الحضارة، وثالثة باسم الإعلام والميديا، وأخرى باسم الحرب على الإرهاب، ورابعة باسم الإرهاب نفسه، وغير ذلك.
لعلّ ذلك يعيدنا إلى ما ذهب إليه كارل فون كلاوزفيتز بأنّ السياسة هي امتداد لفكرة الحرب، ليُمكّننا من فهم حالة الجسد في المجتمعات العربية بين الحظر والمنع والهندسة والرقابة والتصنيف والجندرة والمنع/النفي، ومن مدن تقع تحت حظر عسكري يقوم بذاته على فكرة نفي الجسد المادي من الحيز العام/ المشاع، إلى أخرى تقسم الأماكن العامة بحسب جنوسة السلطة، وتقنن وجود الجسد فيها بحسب جنسه، وأخرى تفرض شكلاً جسدياً للمواطنة. كل ذلك يجري بغية هندسة وإنتاج «أجساد» و«أماكن» تتناسب وخطاب السلطة الحاكمة ومصالحها ومؤسساتها المختلفة (والمعرفية إحداها)، وبالتالي فالتاريخ الذي تنتجه تلك المؤسسات في ما يتعلق بالجسد والمكان، هو تاريخ لا بد له من أن يتناسب مع السلطة.
لعل تلك العلاقة الظاهرة والقوية بين السيطرة والجسد والمكان في تاريخنا، يمكن تفكيكها ضمن سياقات مختلفة كالذكورة (وتحديداً الفحولة) والأبوية والبطريركية والعسكرية التي يعانيها العقل المصري (والعربي)، وما ينتجه من أمكنة، وهي تلك الأنساق التي تنتج علاقات القوى في المجتمع. إلا أن مقاومتها لا يمكن أن تقوم من دون تفعيل دور «الجسد» في التعبير والمواجهة. من هنا، جاءت فكرة «مهرجان ترانس دانس الدولي للرقص والأداء»، الذي يستمرّ حتى 30 الشهر الحالي في وسط البلد في القاهرة. تلك الأنساق هي التي تخلق قوتين اثنتين، إحداهما تسعى إلى المحو والطمس والنفي، والأخرى تسعى إلى التخليد والتثبيت. هاتان القوتان ــ وإن كان ظاهرهما التعاكس ــ إلا أنهما اتفقتا على شيء واحد هو السيطرة على الجسد، فهما القوتان اللتان تلقى على عاتقهما كتابة التاريخ كخطاب، تخطه السلطة بأقلام نيوليبرالية حداثية (انظر موقف الليبراليين العرب من أحداث مصر، وعلاقتهم برأس المال السياسي) تطورت عن فكرة الحرب في السياسة (باعتبار السياسة ضرباً من ضروب الحروب كما أوردنا، واستناداً إلى دور الجسد العضوي في أي حرب).
الثيمة العامة للمهرجان تختصرها عبارة «نسيان ومقاومة»، ما يعود بالعقل إلى ذاتيات سردية متشابكة يمر بها يومياً في وطننا العربي من دون التوقف للتأمل رغم كثافتها. التغييب عن السرد التاريخي والمكاني لا يعني الإلغاء، كما أن الغياب لا يعني الموت (ولعل هذا ما يجعل سرديات المقهورين التاريخية الأقرب تماساً مع القيمة الأخلاقية). إنهما وسيلتان لمواجهة هذا التوحش النسقي ضد الجسد/ الفرد الذي تسببت به ديناميات خطاب السلطة كالوطنية والثورية والتحضر والتحرر وغيرها من عناوين (كلها على ما يظهر على بعضها من نبل) واستهدفت الجسد/ الفرد، لأنها لم تنفصل عن المؤسسة الحداثية في صورة الدولة.
الغياب والحضور لا يشكلان ثنائية في الواقع، بل ينبني كل منهما في رحم الآخر. يتشكّل الغياب في ظل فكرة الحضور، والعكس صحيح، وأهمية الغياب/ المحو تأتينا بوصفه سؤالاً عن معنى أن نكون: نكون أو لا نكون ليست المسألة. المسألة الحقة كما صاغها المخرج الإيطالي روميو كاستولوتشي في أن نكون ولا نكون في الوقت نفسه. في تلك الحالة، يمكن للجسد أن يواجه السلطة والهيمنة ولسان حاله: «أنا لست هنا، ولكنك تراني/ أنا هنا ولكنك لن تراني» وهو ما يعد تجاوزاً وتفكيكاً لآليات السلطة في نفي الجسد والسيطرة عليه. غياب الجسد الحاضر هو حالة من «الكمون» وهو مفهوم آخر مشتق من مفهوم الغياب. يُعرَّف «الكمون» على أنّه «حالة ما هو موجود على نحو غير ظاهري، يملك إمكانية الظهور في أي لحظة. يعبّر الكمون في هذا المعنى عن الفترة الزمنية التي تفصل بين الحافز وما يستدعيه من استجابة له». تتضمّن ثيمة المهرجان تحرير الذاكرة والجسد من خطاب السلطة والهيمنة، في عالم تحكمه قوة النسيان التي تضمن حالة الغياب المتسع، وبالتالي، فـ«الكمون» لخلق الزخم الكافي المقاوم للعقل المؤسسي الذكوري، سواءٌ في صورتيه الدينية التي تكالبت على الثورة أو العسكرية حالياً، باستدعاء الكثير من الأنساق المضادة للأجساد والمصنفة نفياً لها في الصورة الفيتشية الرأسمالية الحداثية.
يستضيف «ترانس دانس» عروضاً أدائية وحركية وموسيقية وعروض أفلام ومحاضرات، وزواراً وفنانين من أكثر من دولة. كان المهرجان مهدداً بالإلغاء و/ أو التأجيل، نظراً إلى موقف بعض الرعاة الرسميين من راهن الساحة المصرية، بالتوازي مع مضايقات السلطات لبعض الإجراءات القانونية المتعلقة بالمهرجان وفنانيه، إلا أنّ الحدث قاوم نزوعاً متكرراً لاستحضاره كغيره من المشاهد الثقافية العربية إلى ملعب البترودولار الإستهلاكي، وتحويل «نسيان ومقاومة» إلى مجرد سلعة تباع وتُشرى.