من بلد إلى آخر، نسافر عبر الأفلام التي اختارتها «متروبوليس أمبير صوفيل» لـ«أسبوع آرتي». نعود مجدداً إلى البوسنة عام 1993 في «دوائر» (23/10 ــ 2013) لسردان غولوبوفيتش الذي سيمثل صربيا في الأوسكار المقبل. الفيلم المستوحى من حدث حقيقي يتناول قصة ماركو الذي يقتله رفاقه في الجيش الصربي لاعتراضه على العنف الذي يمارسونه ضد أحد المسلمين المدنيين. من خلال قصة فردية، يبحث الشريط في أزمة ما بعد الحرب الأهلية والصراع التي تعيشه الشخصيات التي لا تقوى على النسيان أو الغفران. يعتمد الشريط في حبكته الروائية على مقارنة الماضي بالحاضر، وتقديمهما ضمن خط زمني واحد.
التفاصيل هي أيضاً ما يعتمد عليه المخرج في تبرير تسلسل الأحداث، فكلّ أحداث الفيلم لم تكن لتقع لولا أنّ ماركو لم ينس علبة سجائره في أول الشريط. «دوائر» فيلم قاس بأحداثه العنيفة لكنّه يبحث في السبيل للخروج من دائرة الفعل وردة الفعل، وإيقاعه البطيء يشبه الانتظار العاقر الذي تعيشه الشخصيات التي لم تنه حدادها بعد. «صيف الأسماك الطائرة» (25/10 ــ 2013) لمارسيلا سعيد كاريس الذي عرض في «مهرجان كان» يعد عنوانه بمخيلة خاصة نتحمس لاكتشافها لكنها تبقى لغزاً حتى بعد مشاهدته. الفيلم التشيلي يروي قصة المراهقة مانينا والنزاع بين والدها الثري الذي يملك أراضي شاسعة وهوسه بالسيطرة الذي يجعله يريد التحكم حتى بنوع الأسماك التي تسبح في البحيرة وبين السكان الأصليين الهنود الذين يشعرون بأن تلك الأراضي انترعت منهم بعدما منعهم والدها من دخولها والصيد فيها. تلك الأحداث تشكل ظاهرياً الحبكة الروائية، لكن الفيلم يدور في مخيلة مانينا وتماهيها مع الطبيعة التي تشاركها التأمل الصامت في ما يحدث حولها. في ظل تلك المشاهد الطبيعية الخلابة وحياة الرفاهية التي تعيشها مانينا، هناك عنف حاضر دائماً لكنّه متخفّ. نراه في كل اللوحات الغريبة التي يرسمها لوركا صديق مانينا التي تظهر فيها دائماً الطفلة الشقراء نفسها، أو في صوت الديناميت الذي يهز سكون البحيرة، نحسّ به لكن لا تظهر معالمه بشكل واضح، وهذا ما يجعله أكثر قسوة. تضع المخرجة التشيلية مسافة متعمدة بين الكاميرا وشخصياتها. في أحيان كثيرة، تبدو كأنما هي كاميرا مراقبة، مما يجعل المشاهد في حالة ترقب دائم لكارثة ستحصل طوال الوقت. لعلّها بذلك تحاكي جمود هذه الشخصيات التي تبدو كلها كأنها متحجرة باستثناء مانينا التي تتفاعل مع ما يجري حولها رغم أنها صامتة دوماً. من تشيلي إلى البرتغال، نتعرف إلى أورورا العجوز الغريبة الأطوار في «تابو» (21/10 ــ 2012) لميغيل غوميز. أورورا تدمن القمار وتتوهم أنّ خادمتها الأفريقية رمت عليها تعويذة سحرية. الفيلم الذي يبدأ بالعلاقة المتوترة بين أورورا وخادمتها وجارتهما التي تريد أن تنقذ اورورا من أزمتها العصبية سرعان ما يتخذ منحى آخر. بعد موت أورورا، يبدأ حبيبها العجوز بسرد قصة حياتها، فيتجه إلى الأسلوب الروائي حتى نهاية الشريط. ورغم جمال القصة والتواتر بين السرد والمشاهد الصامتة والناحية التجريبية لهذا العمل، إلا أنّ الخيار الإخراجي في خلق مزيج هجين بين الوثائقي والفيلم الصامت قد لا يبدو مناسباً لفيلم بهذه المدة الزمنية الطويلة حيث الطابع الأدبي يطغى عليه.
لعلّ «هيلي» (28/10 ــ 2013) الذي حاز مخرجه أمات أسكلانت جائزة أفضل مخرج في «مهرجان كان» يعدّ من أقسى الأفلام المعروضة في التظاهرة. يرينا المخرج عمليات تعذيب رهيبة من خلال أزمة المخدرات والفساد في المكسيك وصراع عائلة صغيرة تجد فجأة نفسها في قلب هذه الأزمة بلا ذنب. لا يفرض المخرج أي جمالية رومانسية على الأحداث والشخصيات، بل يعتمد الواقعية المجردة في تصوير العنف والدراما الحياتية للشخصيات كما في علاقة هيلي مع زوجته، وهذه نقطة قوة الفيلم الذي تجعله صادماً وحقيقياً معاً.
ننتقل إلى «قصر في إيطاليا» (26/10 ـ2013) للفرنسية الإيطالية فاليري بروني تيديشي الأكثر صخباً بشخصياته الانفعالية والمتفجرة. يجمع ببراعة بين الكوميديا والتراجيديا، راوياً قصة عائلة ثرية تتفكك بفعل مرض الأخ وتوشك على خسارة قصرها التاريخي. شريط ممتع بحواراته وأحداثه الجنونية لكنّه يشرّح العلاقات العائلية والعاطفية بحس سخرية لاذع تختبئ وراءه هشاشة الشخصيات ورقّتها. إضافة إلى الوثائقي الوحيد في التظاهرة «الصورة الناقصة» (22/10 ـ 2013) لريثي بان الذي يضيء على جرائم الخمير الحمر في كمبوديا وحاز جائزة «نظرة ما» في «كان»، يُعرض شريط واحد مقتبس عن رواية هو «مايكل كولهاس» (24/10 ــ 2013) للمخرج الفرنسي أرنو دي باليير. العمل قصة من فرنسا القرن السادس عشر عن ثورة اشتعلت من قلب الظلم، حين يجد تاجر الأحصنة مايكل كولهاس نفسه أمام ظلم السيد الإقطاعي، فيشنّ ثورة لاستعادة حقوقه.

«أسبوع آرتي»: حتى 28 ت1 (أكتوبر) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الاشرفية ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/204080 ــ جميع العروض تبدأ عند الثامنة



فيتنام الخمسينات

من الأفلام الأكثر قدماً التي تستحق المشاهدة ضمن الأسبوع «رائحة الباباي الخضراء» لتران آنه هونغ (27/10 ــ 1993). حصد العمل جائزة الكاميرا الذهبية في «كان» وجائزة «سيزار». تدور أحداثه في فيتنام الخمسينات راوياً قصة الطفلة موي التي تعمل خادمة في منزل عائلة كانت فقدت طفلة بعمرها. تكمن قوة الشريط في مشهديته التي تصور تفاصيل الحياة الدقيقة كالحشرات التي تراقبها موي على النباتات أو إيقاع تحركات البشر اليومية. منذ البداية حتى نهايته، تبقى موي صامتة باستثناء حوارات معدودة، لكن من خلال نظراتها نقرأ انفعالاتها وأفكارها. رغم جماليته السينمائية، يحمل صمت موي رمزية صمت النساء الذي هو سجنهن.