يحمل المكان شرخاً مع المحيط. في الخارج، يبدو الزمن شبه متوقف. لا سيارات أو عمارات عالية تخدش الهدوء الذي تمنحه الغابات الكثيفة على رأس التلة. تستغرب أساساً وجود متحف هنا في بلدة عاليتا (قضاء جبيل) المرتفعة. ولولا اللونان الأصفر والأحمر اللذان يحملان اسم «مقام»، لقلت إنّه مصنع مهجور آخر. أما داخل متحف «مقام» (Modern and Contemporary Art Museum) فالزمن مرن. هنا لا يفرض الديكور المتقشّف طابعاً زمنياً معيناً على الأعمال الفنية المعروضة، أو على تواريخها التي تمتدّ على مدى العقود الستة الماضية، فلا أضواء مشعّة، ولا بلاط لامعاً، أو جدران منمّقة.
قبل بضعة أشهر، كان المكان يتألف من مصنعين متصلين يعودان إلى السبعينيات. وبفضل مبادرة ثنائية، تحوّلت الآلات الحديدية التي كانت في داخله إلى منحوتات وأعمال فنية. انطلق هذا المشروع في بداية هذا العام مع تأسيس «جمعية الفن المعاصر عاليتا» وحصول كل من الناقد والمؤرخ الفني اللبناني سيزار نمور والباحثة الألمانية غابرييلا شاوب على هذه الأرض التي تبلغ مساحتها حوالى عشرة آلاف كيلومتر، وتضمّ مصنعين متصلين يمتدّان على حوالى 4000 كلم. وبعد جهد ثنائي مكثّف، افتتح المتحف بخفوت في 29 حزيران (يونيو)، ليستكمل رحلة سيزار نمور في توثيق الفن اللبناني التي بدأها في جريدة «النهار» خلال سبعينيات القرن الماضي. واشتملت هذه الرحلة أيضاً على تأسيسه «دار الفنون الجميلة» التي أصدرت 22 كتاباً عن الفن اللبناني حتى الآن، ومكتبة Recto Verso (بيروت) التي تحتوي على مئات المؤلفات التوثيقية للفن اللبناني الحديث.
حتى اليوم، لا يزال المتحف غير مكتمل، لكنه جاهز للزوار وقد ظهرت بنيته الأساسية. هكذا، يستعيد المتحف ويحفظ حقبات شبه زائلة أو مهددة بالزوال من تاريخ الفن اللبناني الحديث من خلال قسمين أساسيين: قسم للنحت اللبناني الحديث، وقسم للأعمال الفنية المعاصرة. وهذان الأخيران يضمان حتى الآن حوالى 400 منحوتة وعملاً لـ 60 فناناً لبنانياً، جمعها الثنائي، وأعادا عرضها لتمنح الزائر لمحة عن تطور الفن وأشكاله خلال السنوات الستين الأخيرة.
عند المدخل، وضعت طاولات ومقاعد ومعدات رسم وتلوين وتركيب. وعلِّقت رسمات طفولية على الجدران. هذه المساحة الأولى والمستقلة في المتحف خصصت للأطفال. يعتقد نمور أنّ «الهدف الأساسي للمتحف بعد هدفه التوثيقي يكمن في التعليم». لذلك كان التوجّه إلى الأطفال بهدف وضعهم في إطار المشاركة واكتشاف المخزون الثقافي اللبناني.
تطالعك قاعة واسعة خصصت للمنحوتات اللبنانية الحديثة. استدعى نمور منحوتات لأبرز وجوه النحت في لبنان المعروفة وغير المعروفة. وقد قسم القائمون الأعمال إلى 4 أقسام (معدن، وخشب وحجر وخزف). هنا، عرضت لكل فنان منحوتة أو أكثر، مرفقة بتعريف عنه ولمحة عن أعماله. هذا الفن الذي لم يأخذ حقه في لبنان، يحمل نمور على عاتقه توثيقه وتجميعه. بعض هذه الأعمال جمعها من أصحابها، فيما البعض الآخر هو من مجموعة نمور الخاصة. نرى أنفسنا أمام أعمال لرواد النحت اللبناني الحديث، أمثال يوسف الحويك، والإخوة بصبوص، ومروان صالح وغيرهم، وصولاً إلى أحدث النحاتين اللبنانيين، منهم اللبنانية جنان مكي باشو التي عرضت أعمالها الأخيرة المنجزة من مواد تجمعها من شظايا الحرب الأهلية. إلى جانب هذه المنحوتات، تُركت آلتان حديديتان كبيرتان من بقايا المصنعين. وإن بدا هذا كخطأ في العرض، إلا أنّ نمور عمد إلى «المحافظة على ذاكرة وهوية المكان». ووضع إلى جانب الآلتين بعض مصنوعاتهما: طبشور، وتلوين، وأكياس للاسمنت «لتعريف الناس على ذاكرة المكان».
في العقدين الأخيرين، شهدت الأعمال التجهيزية المعاصرة فورة في لبنان. هكذا، تفتح غاليريهات العاصمة اللبنانية أبوابها لاستقبالها بشكل دائم تقريباً. لكن مهما كانت مميزة، فهي ترتبط باللحظة وتحمل صفة الزوال. من هنا، أتت فكرة القاعة الثانية في المتحف، وهي واسعة أيضاً. وضعت فيها أعمال تجهيزية لبنانية معاصرة، تشتمل على تلك التي حصدت جوائز، أو عرضت في الخارج أو يكفي أنّها أنجزت في لبنان بعدما طلب نمور من الفنانين الشباب إعطاءه بعض أعمالهم. تم التعاون بكثير من العفوية وبالمجّان. وبهذه الطريقة يمنح المتحف ديمومة للأعمال، وتوثيقاً لها ووضعها ضمن إطار رسمي، وتعريف الزوار بها. يحمل كل من نمور وشاوب عدداً من الخطط لتطوير متحفهما. هما يسعيان إلى إقامة طبقة ثانية حين يحصلان على التمويل الكافي لإضافة قاعة تحتوي على الأعمال التشكيلية اللبنانية. كما يتم التحضير لفيديو عن النحت اللبناني. وغرفة بصرية _ سمعية. يعطي المتحف طابعاً خاصاً لهذه المبادرة «الانتحارية» الجميلة التي تكتسب أهميتها من ثلاث نقاط: مغامرة فنية من دون دعم رسمي، وتشييد هذا الفضاء خارج الإطار المديني الرحب، وإعادة الاعتبار لتلك المرحلة الذهبية الغائبة كلياً عن اهتمام الجهات الرسمية.




مشاريع هندسية

عند افتتاح «مقام» في 29 حزيران (يونيو) الماضي، احتضن المتحف معرضاً للمشاريع الهندسية لطلاب آتين من ست جامعات لبنانية (الجامعة الأميركية في بيروت، الجامعة اللبنانية الأميركية، جامعة البلمند، الجامعة اللبنانية، جامعة سيدة اللويزة، وجامعة روح القدس في الكسليك). المشاريع جاءت حصيلة المسابقة التي أطلقها القائمون على المتحف للتنافس على تقديم أفضل مشاريع معمارية لتحويل المصنعين المذكورين آنفاً الى متحف حديث. وقد حازت سبعة مشاريع تنويه اللجنة التحكيمية، فيما حصل خمسة من الطلاب على جوائز تقديرية.