كيف لنا أن نتخيّل قصة حبّ تدور في غرف الجراحة وبين أروقة المستشفيات الباردة؟ لعل هذا هو التحدي الأول الذي تواجهه المخرجة الفرنسية ماريون لان في فيلمها الجديد «القلب المفتوح» المقتبس عن رواية «صعود نهر أورينوك» لمواطنها الروائي ماتياس إينار. تلعب جولييت بينوش دور البطولة إلى جانب إدغار راميريز الممثل الفنزويلي الذي عرفناه من خلال فيلم «كارلوس» الذي فاز عنه بجائزة «سيزار» لأفضل ممثل واعد. «ميلا» (جولييت بينوش) وزوجها جافييه (إدغار راميريز) جرّاحا قلب يعملان في المستشفى ذاته، حيث يجريان عمليات جراحة وزراعة للقلب.

منذ البدء، تأخذنا المخرجة في رحلة داخل حجرة الجراحة حيث نرى القلب البشري في لقطات مقربة، مما يسبّب صدمة ويثير الخشية مما سيلي. إلا أنّ ماريان لان تبرع في ترويض المشاهد وتنجح في إقناعه برومانسية مستحيلة في ظلّ العالم الطبي الذي نتخيله قاسياً وبارداً. ميلا وجافييه هما تماماً نقيض شخصية الطبيب التي نتخيّلها جديةً وعقلانيةً بشكل مفرط. هما يعيشان حياة ملؤها الشغف والمغامرة من السهرات الحافلة، إلى النزهات الليلية على الدراجة النارية أو التسلل إلى الحديقة والسباحة ليلاً. لا ينغّص هذه الحياة الرائعة سوى إدمان جافييه على الكحول، المشكلة التي تحاول ميلا دوماً احتواءها بحبّها غير المشروط الأشبه بالأمومي عبر مجاراته في كل أهوائه وتقلّباته المزاجية. لكن دينامكية هذه العلاقة سرعان ما تتهدّد حين تحمل ميلا التي لا تريد هذا الطفل في البداية، ثم تغيّر رأيها إرضاء لجافييه الذي يرى في رفضها تشكيكاً بصلاحيته كأب. تغيّر الأمومة ميلا شيئاً فشيئاً بينما ينغمس جافييه أكثر في الكحول والتدمير الذاتي، ويرفض أن ينضج كي يترك مكاناً للطفل الآخر القادم.
«القلب المفتوح» تشريح فعلي للحب والطاقة الهائلة الذي يولّدها القادرة على تحمل المستحيل وفي لحظة أخرى على تدمير كل شيء. المقاربة بين القلب كعضو في جسم الإنسان وكرمز للحب ناجحة رغم أنه كان يمكن للمخرجة توظيفها سينمائياً في أسلوب أكثر تعمقاً. إلا أنها اختارت جعلها مجرد خلفية حيث تنزع عن الطب هالة القدسية المحيطة به، فنرى الأطباء يتمازحون ويتشاجرون أثناء العمليات الجراحية. في هذا الإطار، نتذكر عدداً كبيراً من المسلسلات الأميركية التي ظهرت في الفترة الأخيرة تصوّر حياة الأطباء الخاصة أو العمليات الجراحية، وقد لاقت نجاحاً جماهيرياً لافتاً بالنظر إلى قسوة المشاهد والمواضيع التي تتناولها. ولعل سبب ذلك يعود إلى فضولنا تجاه ما يجري خلف غرف الجراحة المغلقة أو ارتباط صورة الطبيب بالمخلّص أو الساحر صانع المعجزات. أسلوب الإخراج في «القلب المفتوح» محيّر، هو يتخذ منحى تجريبياً في إيقاع المشاهد التي تتالى بالوتيرة السريعة نفسها والكاميرا التي لا تستقر ولا تهدأ كأنما تحاكي الإيقاع الانفعالي والهستيري لعلاقة هذا الثنائي. في هذا الفيلم، يختلف أداء جولييت بينوش عن أدوارها السابقة. للوهلة الأولى، لا نراها مناسبة فعلاً لهذا الدور الذي يجرّدها كلياً من صورتها النمطية الحاضرة دوماً في تمثيلها كأنها تضيف من نفسها إلى الشخصية. في «القلب المفتوح» تبدو بينوش مرآة لراميريز الذي يشاركها البطولة، وهو أمر لا نستطيع تبيان سلبيته من إيجابيته فعلاً. من جهة، يبدو هذا الخيار مناسباً للعلاقة بين هذا الثنائي التي تتّسم بالتماهي الكلي أحدهما مع الآخر، بينما من جهة أخرى تبدو الهستيريا التي تسيطر على العلاقة مبالغاً فيها أو مفتعلة. مع ذلك، نقتنع تدريجاً بالمنطق الذي يفرضه الفيلم وتبدو تلك الانفعالية المفرطة كأنّها جزء من مشكلة الثنائي نفسه العاجز عن إجراء تواصل حقيقي، فيفتعل الحماسة. وإن كان راميريز يبدو بطبيعته أقرب إلى الدور المسند إليه، فإن بينوش تتفوق على نفسها في هذا الدور لا يشبهها.
لعله هنا تكمن قوة الفيلم وضعفه في آن معاً. إنّه يقدم طرحاً جديداً، ويسعى لتقديم دراما عاطفية مختلفة تخرج عن النزعة السينمائية الفرنسية التي تعتمد غالباً على إيقاع أكثر هدوءاً وتأملاً، وعلى حوار مدروس بعناية. رغم أنّ الحوار المقتضب (سيناريو ماريون لان) وأسلوب الإخراج الحاد التقطيع لا يتركان أحياناً فرصة للمشاهد للتعمق في الشخصيات والأحداث، إلا أنّهما يبنيان إيقاعاً عفوياً لا نملك إلا أن نتماهى معه. هو يبدو أشبه بإيقاع الحياة العشوائي والمتفجر التي لا نملك فيها أن نتوقف.
أجمل ما في الفيلم هي التفاصيل الصغيرة المنسوجة بحساسية عالية، مُنبئةً بالفاجعة التي ستحصل في النهاية، كأنّها إنذارات صغيرة عن اقتراب النهاية، كمشهد ميلا وهي نائمة على السرير تحت الغلاف البلاستيكي، أو الشقة رمز الحياة المشتركة للثنائي التي تفرغ تدريجاً من محتوياتها إلى أن تدمَّر بالكامل من قبل الزوج، أو صورة ميلا مع أبيها التي تلقاها مجدداً في حلمها الأخير حيث الزوج يأخذ مكان الأب وهي الطفلة المنتظرة.
«القلب المفتوح» فيلم بكل تناقضاته يثير التساؤلات ويقدم لنا قصة حب خارجة عن المألوف أو ربما هي بعشوائيتها المدمرة تشبه كل قصص الحب. يبقى للمشاهد أن يكون رأيه الخاص.



À cœur ouvert: بدءاً من 24 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ صالات «أمبير» (1269)، «فوكس» (01/285582)، «سينما سيتي» (899993/01)، «متروبوليس أمبير صوفيل» (204080/01)