الأمكنة التي تحتضن معارض وتجهيزات سمير خداج (1939) هي جزء أساسي من لحظة العرض لديه. لا يُنجز الفنان اللبناني المتفرّد أعماله وفقاً لشروط هذه الأمكنة بالطبع، إلا أنه يجد فيها صلات، مرئية وغير مرئية، مع مزاجه الشخصي، ومع روحية أعماله التي سرعان ما تؤلف حواراً حميماً مع تفاصيل هذه الأمكنة. التجهيز الحالي Déferlement (فيضان) الذي يحتلّ جنبات «مسرح المدينة» السابق الذي أُغلق قبل سنوات، ويخضع حالياً لعمليات ترميم وتجديد، هو طبعة جديدة من مشاريعه الأخيرة التي يمزج فيها بين الرسم والتجهيز والفيديو.
الخراب أو الرؤية الكابوسية التي سبق أن تراءت لنا في معارضه السابقة يجري استئنافها هنا، حيث يتورّط الزائر في الفكرة حالما يخطو إلى الداخل. فكرة أننا حضرنا إلى هذا المكان في سنوات ازدهاره تستدعي صوراً من تلك الفترة، وتجبرنا على خلط ذاكرته بذاكرة المكان المهجور.لا بدّ أن هذا خطر في بال الفنان الذي عرض مشاريع مماثلة في مبنى «سينما سيتي» في الوسط التجاري، وفي قبو كنيسة القديس يوسف، وفي «زيكو هاوس»، لكن لعبته أكبر من ذلك بكثير. استثمر سمير خداج المكان الموزع عل بهو ودرج يُفضي أولاً إلى مساحة كانت تحتلها الحمامات والبوفيه، ثم ينزل إلى المسرح نفسه الخالي حالياً من المقاعد. في البهو، شاشات فيديو تعرض إحداها طابوراً من الزوار أمام «مركز جورج بومبيدو» في باريس، والثانية ازدحاماً في محطة مترو، والثالثة وجه امرأة تروي شيئاً، لكن الشاشة خرساء. في شاشة رابعة نرى جزءاً من تجهيز عُرض في «زيكو هاوس» قبل أعوام، وفي شاشة أخرى، نرى الفنان نفسه وهو يرتدي قناعاً، أو يكتفي بالإقامة بين أعمال وأغراض غير منجزة بالكامل، بينما على شاشة مجاورة شخص يرمي بنفسه من مبنى شاهق. النزول إلى الطبقة الثانية للمعرض يضعنا أمام لوحات تتكرر فيها الأبنية المهدمة التي تذكرنا بحقبة الحرب الأهلية. العلم اللبناني إشارة لا لزوم لها لتذكيرنا بهوية هذه اللقطات، وإلى جوارها فيديو لورشة إعادة إعمار، وفيديو آخر يوثق عملية ذبح عجل وسلخه وتعليقه أمام محل لأحد اللحامين. نظن أن النزول إلى الطبقة الأخيرة سيضعنا أمام معروضات كثيرة تسمح بها الخشبة العارية والمدرج الفارغ، لكن خداج يُفاجئنا بوضع تمثال وحيد على الخشبة، بينما نسمع صوته المتهدج يتلو نصاً من تأليفه بالفرنسية. النص يخاطب التمثال بأسئلة لن يرد عليها. هناك حوارٌ عن الانتظار والعزلة والموت والعبث. حوارٌ يتلاقى مع الصور والسيناريوهات التي تتوالى على الشاشات المبعثرة في المكان. بطريقة ما، يذكّرنا المعرض بالمسرح الآيل للهدم في مسرحية «سكان الكهف» لوليم سارويان. لا يمنحنا سمير خداج مادة راسخة تساعدنا على صنع انطباع سريع ومتكامل. عنوان المعرض نفسه هو صفة لا نجد ترجماتها بسهولة في أجزاء المعرض الذي «يفيض» بعناصره ودلالاته، ويدفعنا إلى تكوين انطباعات متلاحقة ومتضاربة أحياناً. الانطباعات محكومة بزمن الزيارة، وبنوعية اللقطات التي تبثها شاشات الفيديو في تلك اللحظات. الزيارة محاولة لتثبيت الزمن كما تفعل الكاميرات، لكن الزمن يتسرّب منا كما يقول لنا خداج الذي يُحيلنا على ما يعرضه كلما حاولنا جرّه إلى شرح ما نراه. هكذا، يستطيع كل زائر تأويل المعرض بحسب رؤيته، ويستطيع أن يتخيل أن خداج نفسه جزء من التجهيز. لا يحدث ذلك لأنه يطل علينا من بعض الشاشات أحياناً، بل لأنه يبدو صانعاً لما نراه وضحيةً له في الوقت نفسه. كأن التجهيز يحدث أو يتألف في لحظة مشاهدته، ويظل غير مكتمل أيضاً. يمكننا أن نتخيل أننا أمام فنٍّ حَدَثي فيه شيء من الملحمية والسريالية واللامعقول، وأن الفنان يعرض علينا «فائض» حياتنا اليومية التي يتراكم فيها الدمار والقبح والدم، حيث الشاشات لا تبث أخباراً عاجلة كما تفعل الفضائيات الإخبارية، بل تبث شذرات من حياتنا المتكررة من دون جدوى في مسرح قديم ومهجور.


يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




فيضان: حتى 15 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «مسرح المدينة» القديم (كليمنصو) ـ للاستعلام: 03/477831