منذ البداية، يجب أن يكون واضحاً أنّ بريتال ليست «مأوى للمجرمين» كما يقول العرض السخيف. فيها شعراء وكتاب وأطباء ومهندسون، ومزارعون رائعون، وزملاء مفترضون لمعدّ التقرير «المضيء». لا يكفي هذه المنطقة إهمالاً تاريخياً، ليأتي مَن يخطر له القول إنّها «مكان لتجمع السيارات المسروقة في لبنان». ورد هذا حرفياً في تقرير «أخطر عشر مناطق في لبنان» الذي نشره موقع «ناو ليبانون» قبل أيام من دون أن يستند ــ كما درجت العادة ــ إلى أي معلومة واضحة. هذا رغم أنّ قناة «الجديد» عرضت قبل عام وثائقياً استقصائياً مميزاً أضاء على الحياة الطبيعيّة في البلدة البقاعية القريبة من سوريا.آنذاك، تبيّن، لمن يهمّه الأمر، أن لا كائنات فضائية هناك، ولا سيارات مخبّأة في الكهوف كما افترض معدّ التقرير في «ناو».

لم تتوقف الخفة هنا. صنّف التقرير إياه مخيّم عين الحلوة أخطر منطقة في لبنان. وهذا كيتش لبناني كريه آخر مرتبط بالمخيّمات الفلسطينيّة حصراً، وجهز قبل ثلاثين عاماً لحرب لا يزال الجميع يبحث عن الكلمات المناسبة للعنها من دون أن يجدها. لا يعني ذلك أنّ المخيّم «هايد بارك»، لكنّ تصويره على هذا النحو العنصري، واتباع «مخيمات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في مقام الخطورة الثاني، خلفه تماماً، يدلان على مأساة الصحافة اللبنانيّة التي لا تشعر بأي حساسيّة تجاه العنصريّة، بل تقفز عنها كأنّها سوّغت بفعل... الكيتش!
في حالة NOW، استغنت الصحافة (الافتراضية) عن البحث، واستسلمت لغواية الكيتش. وفي الحديث عن الكيتش، لا بد من الإشارة إلى أنّ خامس أخطر منطقة في لبنان هي الليلكي. والعارف يعرف أنّ هذا سيُضحك أهلها. ربما يشعرون بالإهانة، لأن معدّ التقرير اختار صورة لرجل مع الكوفية البعلبكية الشهيرة، وهو يحمل مسدساً حربياً بزهو. سيحسبون هذا تنميطاً ضدّهم وهذا حقهم. لكن القول إنّ الخلاف بين آل حجولا وآل زعيتر سببه الآراء حول كأس العالم، ليس كيتشاً فحسب، بل ينطوي على خبث حاد أيضاً.
على النحو ذاته، لا أحد يمكنه أن يفهم الفائدة العظيمة من وصف عرسال بـ«ذات الغالبية السنيّة»، و«يقال» إنّ فيها «ثواراً» يقاتلون الرئيس الأسد. استخدم الموقع مفردة «يقال». وهذه نكتة سمجة أخرى. حسب الموقع، هذا ليس مؤكداً بعد، رغم استشهاد جنود الجيش أثناء ملاحقته بعض «الثوار» هناك. رغم كل التقارير الأمنيّة الرسميّة، لا شيء مؤكداً عن وجود «ثوار» في عرسال. نتحدث هنا عن «الثوار» الوديعين الذين يحاولون إفساد علاقة القرية بمحيطها. الشيء المؤكد ــ وفقاً للموقع ــ أنّ بريتال «مأوى للمجرمين». يبدو هذا محسوماً. حسناً، لم تعد هذه خفة، ولا لهواً، بل صارت تلامس الخبث. في أي حال، ليست هذه دعوة للقمع. الحريّة تبيح الخبث أيضاً، وتبيح القول إنّه خبث. ربما لا تكون الحريّة الشيء الوحيد الذي فعله «ناو» قبل يومين: تقديم الخيال للناس على أنه أمر واقع. وللمناسبة، فإنّ محاولة معدّ التقرير إمرار بعض المزحات السمجة، كالقول إنّ من بين مناطق الخطر في لبنان الطرقات العامة وغرف الطوارئ في المستشفيات لا تعفيه من تهمة الانزلاق إلى مخيّلته. ثمة تنميط لا يسبّب إزعاجاً للباحث فقط، ويتعدى حدود التنميط الساذج، بل يصل إلى الإهانة المباشرة لبعض المناطق الواردة في التقرير.
في أي حال، موقع «ناو» ليس مثيراً للجدل إلى هذه الدرجة. الجميع يعرف هويّته السياسيّة. واستناداً إلى الفكرة الأخيرة، وعلى قياس لبناني تقليدي، يمكن فهم مكارثيته المفرطة في التعامل مع كل ما يمتّ إلى الخصوم. الخصوم الشياطين في «حزب الله» وكل ما يمتّ إليهم بصلة. طبعاً أي محاولة لادّعاء الحياد، ونفي هذه الهويّة، ستكون مزحة لا تقل سماجةً عمّا سمّاه صاحب الإضاءة الفذة «أخطر عشر مناطق في لبنان». المشكلة الحقيقيّة ليست في آراء الموقع المترفة أكثر ممّا كونها متصلة بالواقع، ولا في وظيفته المؤداة على نحو سيّئ صار على حافة البروباغندا التي لا تنطلي على أهلها حتى. قبل فترة، أثارت هيئة التحرير فيه صخباً ضدّ ناشطات نسويّات، وقذف أحد الكتاب الأساسيين فيه كل ما يكتنزه من ذكوريّة. وما دام الموقع «ليبرالياً»، فيمكن أن يقول الكتّاب ما يشاؤون إلى حدّ التباهي بكراهيّة المرأة والتمييز العنصري ضدّها. وإذا فوّتنا محاسن الليبراليّة التي يفسرها «ناو» لبنانيّاً على ما يبدو، فلا يمكن فهم التنميط العظيم الذي أتحفنا به في القبض على المشعل، و«الإضاءة» اللامعة على «أخطر عشر مناطق في لبنان». يمكن أن يميل الليبرالي إلى الاستهلاك، ويرضخ للتحولات في العالم، طمعاً بمزيد من الحريّة كقيمة سامية، لكن كيف يكون الليبرالي ليبرالياً ويغرق في كومة «كيتشات»؟ كيف يكون الليبرالي شمولياً إلى هذه الدرجة المرعبة، إلا إذا كان ليبرالياً على طريقة «ناو»؟
هذه الاختيارات لـ«أخطر عشر مناطق في لبنان» كما يعلم الجميع، لا تستند إلى أي إحصاءات أمنية. الاحصاءات الأمنية قد تصدم صاحب المخيّلة الفذة الذي لم يكلّف نفسه عناء البحث، وهي وظيفة الصحافي للمناسبة، ومسؤوليته الأخلاقيّة التي يجب أن يسأل عنها دائماً. والمفارقة، أنه وفقاً للمصادر الأمنية، فإن أخطر المناطق اللبنانيّة بالأرقام، ليست ضمن العشر «المصطفاة» إطلاقاً. وهذ الأخيرة، مناطق أهين سكان بعضها جرّاء ترف المُعدّ، ورغبته في الإثارة، وطبعاً، شعوره البريء بأنه قادر على الضحك على القرّاء بواسطة بعض الرسوم التافهة.

يمكنكم متابعة أحمد محسن عبر تويتر | ahmad_mohsen_@



https://now.mmedia.me/lb/ar/nowspecialar/%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%83%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-lebanon-hezbollah-secutiry