القاهرة - من كلمات بيرم التونسي، غنّت أم كلثوم قديماً «ويعجبني خضوعي إليه وأسامحه وهو ظالمني». كانت تلك أغنية «الحب كده» التي يتغنّى بها الناس حتى اليوم. لكن «جرالي إيه؟» التي غنتها أخيراً دنيا سمير غانم، أثارت سخطاً وجدلاً هائلاً بين مستمعيها، دفع بمؤلفها أمير طعيمة إلى الرد عبر صفحته على فايسبوك، مبرراً «خضوع» دنيا لحبيبها في الأغنية، بأنّه جزء من تجربة تخوضها الفنانة الشابة في ألبومها المقبل الذي تقدّم عبره عدداً من الشخصيات المختلفة. يمكن القول هنا بأنّ المؤلف اعتبر أغنيته كما لو كانت «درامية»، كأنها لشخصية ما في فيلم أو مسلسل.
الدراما حاضرة هنا، لأنّ عنوان الاتهام الموجّه للأغنية كان أنّها «تعيدنا إلى عصر أمينة وسي السيد». الشخصيتان اللتان أبدعهما «عميد الرواية العربية» نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وجسّدهما في السينما آمال زياد ويحيى شاهين من إخراج حسن الإمام، ربما كان فيهما حل اللغز. فقد اكتسبت الشخصيتان الخياليتان، ابنتا الأدب والدراما، قوة التاريخ وحضور الواقع، حتى صار يُشار إليهما كما يشار إلى أحداث واقعية كثورة 1919 أو الاحتلال الإنكليزي. إنّ «السيد أحمد عبد الجواد» وزوجته «أمينة» لم يوجدا بشخصيهما أبداً إلا في الفن، ولأن مبدعيهما، الروائي، ثم السينمائي، يعرفان لغة الفن، ويجيدان آلياته، فإننا لم نسمع «أمينة» أبداً تقول إنّ سي السيد «بيسيطر على حياتي» أو مندهشة من كونه «بينقّي صاحباتي». كانت أمينة، كشخصية منسجمة في سياقها الدرامي، تعيش عالمها داخل بيتها الكبير، تخاف من أشباح الطابق السفلي، تطلّ من المشربية على عالم تخافه ولا تعرفه، وكان سي السيد، قاهرها، هو كذلك مصدر أمانها الوحيد، وهي لم تعرف لاحقاً أنها تتحرر من سطوة السيد تدريجاً. لقد فرضت تحولات الزمن على المكان، ورجل المكان، التغيير والشيخوخة، فبدأت أمينة تخرج من البيت من دون أن تدرك «خروجها».
تلك المعاني التي يعمد الفن إلى إيصالها بطرقه الخاصة، عبر الأحداث وخلجات الشخصيات وتحولاتها، جاءت بصورتها الجافة، غير المعالجة، ربما أيضاً الفجة «فنياً» في أغنية دنيا سمير غانم. كلمات أمير طعيمة لم تسلك المعنى الشعري، بل اكتفت بتقديم «الموقف» أو «المشكلة» كما هي وبالحد الأدنى من الوزن الشعري «التعليمات بالحرف أنفذها/ ما هو خلاص سيطر على حياتي/ ومفيش ولاد غيره بكلّمهم/ لا وكمان بينقي صاحباتي/ طب أعمل إيه؟ مش عاجبه معظمهم». وبصفة عامة، فالأغنية لم تحمل سوى «معلومات» الخضوع على غرار «بقيت إلبس على كيفه». ولولا اللحن الجيد لـ«مادي» والصوت الدافئ لدنيا سمير غانم، لكان يصعب التمييز بين الأغنية بوصفها عملاً فنياً، وبين اتصال هاتفي في برنامج إذاعي للمراهقات. هذه «التفاصيل» الخاضعة في أغنية دنيا، هي نقيض شعر بيرم التونسي في «الحب كده»، فخضوع الحبيبة في الأغنية جاء مجرداً، يتناول معاني يختلف تأويلها (وصال ودلال ورضا وخصام)، ولاجئاً إلى الحيل (أورّيه الملام بالعين/ وقلبي ع الرضا ناوي)، شارحا بلُغة سهلة وحميمية (أهو من ده وده) أن تلك مجرد حالة من بين حالات أخرى، وذلك لأن «الحبّ كده».
الفارق بين أغنية تتناول ـــ مثلاً ـــ العنصرية، وأغنية عنصرية، هو الفارق نفسه بين أغنية تتناول الخضوع، وأغنية خاضعة، وهذا الفارق هو ما يُسمّى غالباً ... الفن.