المخرج الفرنسي فيليب فوكون (1958) المهووس بمواضيع الهجرة والأقليات الذي كرَس أهم أعماله لها، كان الأكثر حظاً في ليلة «السيزار» الفرنسية، هو وفيلمه الأخير «فاطمة» (2015) الذي حصد الشهر الماضي ثلاث جوائز، هي جائزة "أفضل فيلم" و"أفضل اقتباس" و"أفضل ممثلة واعدة". هكذا، أعيد طرح الفيلم في الصالات الفرنسية والأوروبية بعدما كان عرضه قد انتهى منذ بضعة أشهر.
صاحب فيلم «التحلل» المولود في مدينة وجدة المغربية، أمضى طفولته المبكرة متنقلاً بين الجزائر والمغرب. كان قد اقتنص موضوع فيلمه الأخير من كتابيّ السيرة الذاتية للمغربية فاطمة الأيوبي «صلاة إلى القمر» و«أخيراً أستطيع المشي» التي دوّنت فيهما تجربتها وكفاحها في المهجر، وحقق الكتابان نسبة مبيعات عالية عند صدورهما. فيلم "فاطمة" أيضاً ليس عن حياة الأيوبي وكتابيّها فقط، بل يحكي عن «الفاطمة» (une Fatima) في المجتمع الفرنسي، وهي التسمية التي اعتاد الفرنسيون إطلاقها على عاملات النظافة في المنازل والمؤسسات.
يتناول الفيلم قصة امرأة مهاجرة من أصول مغاربية، تجد نفسها في مواجهة حادة مع الحياة ومتطلباتها في فرنسا؛ بعد أن تنفصل عن زوجها. فاطمة التي لا تجيد الفرنسية تحدثاً أو قراءة بالرغم من هجرتها إلى فرنسا منذ سنوات طويلة، تجد نفسها مرغمة على الاندماج وتعلم الفرنسية وعلى إيجاد عمل لإعالة ابنتيها، نسرين المنضبطة التي تدرس الطب، وسعاد الأصغر سناً المتمردة والصدامية. تدفعها الظروف إلى العمل في مهنة التنظيف، إلى أن تتعرض لحادثة سقوط أثناء عملها تجبرها على ترك العمل وملازمة الفراش.
جاء الفيلم متقشفاً وبسيطاً بدون موسيقى أو مؤثرات بصرية أو سمعية أخرى

من خلال «فاطمة»، يطرح فوكون مواضيع عدة ساخنة؛ أبرزها اندماج الأقليات الموضوع الحاضر دائماً في السياسة والإعلام الفرنسيين، الذي عادة ما يتم طرحه بشكل سطحي، يتجاهل نظاماً رسمياً وشعبياً يضع عقبات كثيرة، ويقف حائلاً دون فكرة الاندماج نفسها. يشير المخرج إلى العنصرية التي لا تزال متفشية في المجتمع الفرنسي. عنصرية يتواطأ معها الجميع وحتى المؤسسات الرسمية نفسها. كما يسلط الضوء على الفجوة وإشكالية التواصل بين المهاجرين وأبنائهم الذين وُلدوا وترعرعوا في فرنسا، فنجد نسرين وسعاد لا تتكلمان لغة والديهما وتعيشان في عالم مختلف تماماً. كما يبرز في فيلم فوكون موضوع الزوجات اللواتي يلتحقن بأزواجهن في المهجر، ويمضين سنوات طويلة من دون أن يتكلمن لغة البلد أو يعملن على تطوير أنفسهن، لتقتصر حياتهن على خدمة الزوج والأولاد فقط، إذ يأتين إلى المهجر كخادمات في منازلهن لينتهي بهن المطاف أحياناً كخادمات في منازل الآخرين أيضاً.
فاطمة أيضاً هي أيقونة تحكي عن المرأة المهاجرة المنسية في «بلد الأنوار» والحلقة الأضعف في مجتمعه الذي يستغلها من ناحية، ويوكل إليها بشكل حصري أعمال التنظيف أو إعداد الطعام أو رعاية كبار السن والأطفال والحيوانات الأليفة، وإن لم تحصل على أي من تلك الأعمال؛ فسينتظرها فخ الدعارة أو مصير التشرد والفاقة.
فوكون الذي أراد أن يقترب من الواقع قدر الإمكان، غامر في إعطاء الدور الرئيسي لمهاجرة جزائرية لم يكن لديها أي علاقة بالتمثيل من قبل، بل تكاد ظروفها وحياتها الحقيقية تتشابه مع فاطمة في الفيلم. فكانت مغامرة موفقة فاجأت الجميع، فهي التجربة الأولى في التمثيل لبطلة الفيلم ثريا زروال التي لعبت دور فاطمة ببراعة وأداء مقنع جعلنا نشعر لوهلة بأنها لا تمثل بل تعيش الواقع. هذا الأداء أهَّلها لتنافس بقوة على جائزة أفضل ممثلة، إذ رأيناها في حفل الـ «سيزار» تجلس واثقة بين نجوم الفن السابع، هي التي كانت قد هاجرت إلى فرنسا قبل أكثر من عشرة أعوام، وعملت في مهنة التنظيف، وما زالت حتى الآن لا تجيد الفرنسية.
فنياً، جاء الفيلم متقشفاً وبسيطاً، كغالبية الأفلام الفرنسية التي تعالج المواضيع الاجتماعية، إذ خرج العمل بدون موسيقى أو أي مؤثرات بصرية أو سمعية أخرى. وفي المقابل، حضرت مشاهد مكثفة وسيناريو غني مضبوط وحبكة محكمة، عوَّضت تلك العناصر جميعها عن ذاك التقشف.
وعلى عكس موضة الأفلام الفرنسية الرائجة ذات النهايات المفتوحة أو غير المتوقعة، أراد فوكون أن نعرف أين ينتهي فيلمه تحديداً، وأن يتركنا مع فسحة من الأمل في النهاية، إذ تنجح ابنة فاطمة في عامها الأول في دراسة الطب، وتتمكن فاطمة من قراءة نتيجة ابنتها. هذا الأمل الذي يبدو معقداً في ظل مجتمع فرنسي ما زالت العنصرية والطبقية تتفشى فيه، وما زال مهاجروه يفشلون في الاندماج، وما زال نظامه الرسمي ينادي بالمساواة والعدالة، متجاهلاً إرث عقودٍ من التهميش والتجاهل والسياسات الخاطئة.