ليس سهلاً تقديم مادة تاريخية بمستوى توثيقي رفيع في ظلّ ندرة المصادر. تجاوز نقولا ناصيف في «سرّ الدولة: فصول في تاريخ الأمن العام 1945 ــــ 1977» (المديرية العامة للأمن العام ـــ 2013) أخطر عقبة قد تواجه أي باحث جاد يريد عن حق إرضاء ضميره المهني قبل كل شيء. تلخّص المقدمة التي كتبها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم تاريخاً قد يكون كاملاً عن هذه المؤسسة. لا يشعر القارئ بوطأة الكتاب. نصّ حيادي، لغة سيّالة مرنة وهادئة، كأنّنا أمام مشهدية تاريخية نرصدها ونتعقبها ونتفاعل معها بالعين المجردة، ونشهد عليها. تاريخ من تاريخ لا نعرف عنه الكثير حول مؤسسة أمنية برجالاتها وقادتها، أسّسوا وبنوا، رغم الصعاب التي واجهتهم على المستويين التأسيسي والإداري والتقريري، نظراً إلى حجم التداخل الهائل والثقيل بين السياسي والأمني في لبنان، ماضياً وحاضراً.

للمرة الأولى، كما يقول المؤلف، تُكتب قصة إدارة أمنية بطلب منها، تطلق يده في سرد ما خبرته، ولا يعود النص إلى رقيب يصحّح ويعدّل ويضيف. للمرة الأولى أيضاً، يصدر كتاب يرافق ويدوّن البناء والتأسيس والتطور والرجال الأوائل، المديرين والمفوضين وصانعي مهنة لا تكتفي أنّها في صلب النظام والسلطة والدولة والوطن، بل أسهمت في صنع البعض.
تماثل الشخصيات التي كتب عنها صاحب «جمهورية فؤاد شهاب» التاريخ الذي صنعته وعاصرته. لكل منها بصمتها وميزتها وفرادتها، تطوراً وهبوطاً، انتعاشاً وضموراً. إدوار أبو جودة «النواة»، فريد شهاب «المفرد»، توفيق جلبوط «البناء»، جوزف سلامة «الضمور»، أنطوان دحداح «الدور». تختصر هذه الصفات المعبرة مديري الأمن العام السابقين الذي كتب عنهم الزميل نقولا ناصيف.
لسنا أمام سير ذاتية رسمية خالصة، ولا أمام مدَوَّنات تخضع للرقابة. نحن في مواجهة نصّ مفتوح، كثيف المعطيات والمعلومات، غنيّ في التحليل والرصد والتعقب المنهجي، خطوة خطوة على طريق إرساء مادة أقل ما يُقال عنها أنّها تؤسس لتاريخ بكر، تاريخ مديرية الأمن العام والاستخبارات العسكرية.
تميّز مديرو الأمن الخمسة بمواصفات خاصة. كل واحد منهم له بصمته وتفرده وخاصيته ودوره. إدوار خطار أبو جودة (1910 ــ 1972) واكب البذور الأولى للبناء في الأمن العام، وقع بين زمنين هما الانتداب الفرنسي والاستقلال، واتسم ترؤسه إياه بمرحلة انتقالية قصيرة وصعبة، وخصوصاً أنّ المديرية لم تكن مستقلة.
لا يؤرخ صاحب «المكتب الثاني، حاكم في الظل» لشخصياته فحسب، بل يضعنا أمام تاريخ لبنان، أي تلك الحقبات المدونة والممتدة بين 1945 و 1977. لا ندعي أنّ الكتاب غطّى الفترة المدروسة بكل تفاصيلها المضيئة حيناً والمظلمة أحياناً. غير أنّ الرهافة التاريخية والسردية وتواتر الأحداث والوقائع والمشاهدات جعلته يواكب تفاصيل كثيرة تُكشف ربما للمرة الأولى.
مع فريد شهاب (متوفى عام 1985) المتحدر من الإمارة الشهابية، يبدو التاريخ أكثر تشويقاً، كأنه لغز. تمرس المدير الآتي إلى مديرية الأمن العام من دائرة البوليس العدلي في مديرية الشرطة بإتقان مهنته. أحبها كالسر الدفين، وأجاد لعبته وملعبه. نسج علاقات اجتماعية وعامة وتعاون مع استخبارات دول عدّها صديقة للبنان ومتعاطفة مع نظامه بغية جمع المعلومات. إنّه دور المهنة. غير متفق على مولده؛ إذ «شاع أنه حمل أربع بطاقات هوية في كل منها سنّ مختلفة، فلم يتحقق أحد في عائلته من عمره: مواليد عام 1905، أو عام 1908 أو 1909 أو عام 1912، كان هذا سره الأول» كما يردف الكاتب. رجل في دهر. عاصر التحولات الكبرى في سوريا ومصر ودول عربية أخرى في الأعوام الممتدة بين 1948 و 1958. لم يكتفِ بتنشيط مديرية الأمن العام وتفعيلها رغم ضآلة الموارد بين يديه، بل كان مؤمناً بمهنته، عاشقاً لها، يدرك أنّه ليس للمهمات مواقيت، إذ أتقن فنون الاستخبارات وملاحقة المعلومات. بدا كشخصية سينمائية جسدت روايات بوليسية لطالما داعبت خياله في طفولته، هو الذي انجذب إلى أغاتا كريستي «مأخوذاً بأسلوبها المشوق في بناء رواية تحبس الأنفاس وموصوفة بالألغاز»، ما دفعه إلى تلقي حبكة بوليسية فطرية مرّنته على أداء مهنته مديراً للأمن العام لاحقاً زمن رجل الاستقلال، الرئيس بشارة الخوري.
تُعد حقبة توفيق جلبوط (1924) في مديرية الأمن العام حقبة بناء المؤسسة. مهّدت لتكوين صورة للأمن العام تحمل صورة رئيس الدولة لا مديره. إنّها جمهورية فؤاد شهاب، رجل الدولة والمؤسسات بصرف النظر عمّا أثاره المكتب الثاني من صدامات. جلبوط الذي تولى منصبه عام 1958 وغادره عام 1964 مع مغادرة الجنرال، حمل سلوك الجيش معه إلى المديرية. انضباطي بامتياز، شُغل بتنظيم وتطوير المديرية التي شغلت معظم اهتمامه، معتبراً الاستخبار مكمّلاً لها. من إنجازاته أنه مكّن الزوجة من الحصول على جواز سفر بلا إذن زوجها. لم تكن القوانين النافذة تسمح بذلك يومها.
اعتمد جلبوط على شبكات مخبرين من طرازين: الأول عمودي من مدنيين؛ والثاني أفقي من موظفي المديرية. معه، بدأ الإرهاص الأول والصارم للتماس الجغرافي «المنهك» والمقلق مع سوريا الذي اتضحت ملامحه إثر ثورة 1958 والدور السلبي الذي اضطلعت به دمشق قبل إعلان الجمهورية العربية المتحدة ثم بعدها، وما سبّبته من انقسامات سياسية داخلية. كل ذلك مع تعاقب الانقلابات العسكرية منذ عام 1949، وهواجس الأنظمة السورية من لبنان الذي أصبح أرض لجوء لصانعي الانقلاب والناشطين السوريين.
انقضت ولاية الرئيس فؤاد شهاب. آثر توفيق جلبوط الرحيل معه. كيف لا وقد لازمه كـ«سرّ الكهنوت»؟ حملت حقبة جوزف سلامة (1965ـــ 1971) في المديرية أيام الرئيس شارل حلو مميزات جديدة وسط التذمر من «عسكرة الحياة السياسية» التي اتصفت بها الشهابية. بدأت معه المحاولات لإعطاء الأمن طابعاً مدنياً يحدّ تدريجاً من التدخل الأمني والاستخباراتي في الحياة السياسية والعامة. اتصفت شخصيته «بالمرونة من دون صرامة. يعرف كيف يصل إلى هدفه بالطريقة التي يريدها، معوّلاً على تأنقه في الحديث الذي حمله أحياناً على الإفراط في التكرار. يتفادى الصدام والوسائل المنفرة ولا يتجاهل سائليه». هكذا يصف ناصيف مدير الأمن العام الرابع المسالم والهادئ وغير الاستفزازي. لم تخلُ حقبته التي أرادها عهداً للحياد من توتر سياسي أوجبه التداخل الوظيفي المحموم بين السياسي والأمني لتركة الثنائي شهاب _ جلبوط. كسواه ممن سبقوه، شهد سلامة اضطرابات الداخل اللبناني والجوار. حاول «عبثاً إضفاء صفة مدنية على إدارة لا يسعها إلاّ أن تشبه مهنتها، وأن تكون أمنية».
تحت عنوان فرعي «الدور»، يفتتح صاحب «كميل شمعون آخر العمالقة» سرديته التاريخية بمقدمة شكلت عصارة تجربة مدير الأمن العام الخامس أنطوان دحداح (1971 ـــ 1977) في ولاية سليمان فرنجية. صارم يتصرف بمرونة، أوكل إليه رئيس الجمهورية «تنظيف برميل الزفت»، قاصداً بذلك تنظيف السلك من رواسب المكتب الثاني الذي أكل الأخضر واليابس. عمل دحداح على تحديث إدارة المديرية وتنشيط خبرة موظفيها «ودرج على مبدأ استمده مما درسه في مدرسة الأركان في الولايات المتحدة عام 1966، وجعله قاعدة المناقلات والتعيينات: عدم بقاء الموظف في مركزه أكثر من ثلاث سنوات». واجه كغيره من المديرين الذين سبقوه مشاكل أمنية وسياسية وإدارية. تمكّن من تخطي المطبات، واختلف عن سلفه بعدم إحاطة الرئيس بموالين وأنصار. اشتد تدخل الجوار في الشؤون اللبنانية في ولاية دحداح. أدى صراع الاستخبارات العراقية والسورية بعد انقسام «حزب البعث» إلى جعل لبنان موطئاً لحرب سرية، سرعان ما تداخلت مع الاضطرابات الأمنية الداخلية وفجرت مخزون العنف. توقف الكتاب كجزء أول عند حرب السنتين (1975ـــ 1976). وكعادته، عوّدنا ناصيف الإتيان بالجديد. لذا، ننتظر منه استكمال الجزء الثاني للإحاطة بسرّ الدولة وصندوقها الدفين.