تعود إشكالية الأجناس مع العمل الجديد الذي يقدمه الكاتب الأردني ياسر قبيلات تحت تصنيف «رواية». تتكوّن «حانة الحي القريبة» (إصدار مشترك بين «دار أزمنة» في عمّان و«دار ضفاف» في بيروت) من نص تقديمي بالعنوان نفسه، وينبثق منه 48 نصاً قصصياً، توزعت في خمسة فصول ومختتم بعنوان «كأس أخيرة»، حيث تتابع الأحداث ضمنياً بين بعضها، في حين تحافظ الشخصيات على حضورها وتتناوبه على نحو أو آخر في مجمل تلك النصوص. صاحب الكتاب/ الرواية الذي صدرت له قبل ذلك ثلاثة أعمال، يرى أنه يقدم في جديده تجربة في تفكيك الرواية إلى قصص، في توجّه معاكس لتجربته الأولى «أشجار شعثاء باسقة» التي قدم فيها تجربة في البحث عن الممكنات الروائية في القصة القصيرة.
يجد قارئ «حانة الحي القريبة» نفسه أمام نص مفتوح على خيارات في القراءة تضعه إزاء تشابكات وعلاقات النص الروائي من جهة، ومفارقات والتقاطات النص القصصي من جهة أخرى. وما بينهما، تتحوّل الرواية من سيرة مجتمع أو مقطع فني يسجّل جزءاً من تاريخ المجتمع، إلى التقاطات ذاتية تشكل تسجيلاً متشابكاً من الأحداث المتفرقة أو المتتالية أحياناً، والمتكاملة التي تفسر بعضها بعضاً في أحيان أخرى.
تتمظهر إشكالية الأجناس في حالة «حانة الحي القريبة» في التباس ممكن في العلاقة والحدود بين الرواية والقصة التي يمكن أن تنجم عن استخدام الشكل الروائي ووحدته في تقديم رؤية قصصية لمفاصل السرد من خلال وحدات مستقلة نسبياً أو على نحو معاكس استخدام الأسلوب القصصي في بناء النص الروائي.
عملياً، قد يجد القارئ نفسه موزعاً بين خياري اعتبار «حانة الحي القريبة» اقتراحاً فنياً يتجه نحو تحريك عناصر الشكل والأسلوب الثابتة في النص الروائي، بالإفادة من سمات وممكنات فن القصة القصيرة، بوصفها نصاً مفرداً أو مجموعة قصصية؛ أو باعتبارها نصاً يقدم حساسية مختلفة تنقل السرد الروائي من التسلسل والوحدة النصية إلى تفكيك البنية الواحدة إلى وحدات مستقلة، وإن لم تكن منفصلة تماماً.
إن التحفظ الممكن والمحتمل على اعتبار «حانة الحي القريبة» رواية، لا يجردها كتجربة من تسجيل إنجازها الخاص. وهو يتمثّل في هذه الحالة بكونها تحرّر القصة القصيرة من قصرها ومحدودية الأفق المشهدي والسردي الذي يحكمها ويقيدها، وتنحو بها نحو أفق قراءة يحاكي ما تقدمه الرواية في هذا المجال.
يغلب على «حانة الحي القريبة» الطابع التجريدي للأحداث والشخصيات. تغيب السمات المباشرة المحددة لهوية المكان والزمان المطلقين في حدود اللحظة الراهنة، ولا يتم التعريف بالشخصيات بأسمائها، بل بمهنها ودورها وطبيعة حضورها، من قبيل «رجل الحانة المسن» و«الشابة الفاتنة التي قتلت في غارة شنتها الطائرات» و«الجندي الذي قتل في عملية حدودية محدودة». تلك هي أسماء الشخصيات في هذا الكتاب، وتلك ـــ على ما يبدو ـــ أسماؤنا الحقيقية التي يجب تثبيتها في وثائقنا الرسمية!
في المقابل، فإنّ الأحداث تتنقل بين الوقائع اليومية التي يفترض أنها روتينية وعادية، لكنها تتجه دائماً نحو التأسيس لمفارقة تحمل في ثناياها ألوان السخرية السوداء التي تنقلنا إلى وطأة الإحساس الوجودي بالحياة وحثيثياتها.
رغم غرابتها، تعكس «حانة الحيّ القريبة» أحداثاً وشخصيات تتصل بواقعنا وتحولاته الاجتماعية والسياسية، وإن بدت تفاصيلها شخصية وذات منطوق تجريدي فلسفي؛ وهي تفاصيل تُشكل حواراً مفتوحاً حول حياة مثقلة بالتساؤلات والقيود ينزع الكاتب/ أبطاله إلى تفكيكها وتجريدها من حمولتها الأيديولوجية المفرغة، تارة بطرح الأسئلة الحرجة من دون المبالاة بطبيعة الأجوبة والردود عليها، أو عبر تنويع زاوية النظر للحدث نفسه، أو بإفاضة الحوار الذي يحيل كل ما هو غريب مألوفاً.
ينبش العمل في ما وراء الأزمات التي تكبّل إنسان القرن الحادي والعشرين، إذ تمتزج حياته السوريالية بالمرارة والآمال العريضة، والأخطاء القاتلة برهافة الحس وكثافته، والحنين إلى الماضي بشغف وجنون. كما يرصد في مستوى آخر التداعيات المتسارعة في عالم عربي تجتاحه الاحتجاجات والتغيرات، غير أنّ «حانة الحي القريبة» لا تبحث عن تقديم الوقائع الجارية بمسمّياتها، بل تمنحها صبغة المجاز بما يُولّده من اختلاط أفكار ومشاعر وتشظّيها لدى المواطن العربي.
في مشهد الختام، يسأل بطل الرواية الشابة الفاتنة التي قتلت في غارة شنّتها الطائرة على المجمع السكني: «إلى أين تذهبين. قالت: سأجد قبراً أحتمي فيه من كل هؤلاء الأحياء المذعورين. عند هذا الحد، اكتشفت أنني كنت أحدّق، طوال الوقت، في قعر الكأس الأخيرة. وفي قعر تلك الكأس المحايدة، رأيت كل ذلك الذعر، الذي يحرّكنا».