يضع زياد عنتر (1979) كاميرته أمام اختبار غير آمن، يشبه وقوفه على قمم جبال عسير القاحلة جنوبي غرب السعودية. هناك، في تلك البقعة النائية من شبه الجزيرة العربية، اختار الفنان اللبناني أن ينجز After Images الذي يستمر حتى 22 آذار (مارس) في «مركز بيروت للمعارض» (بيال). معرضه الفردي الجديد محطة أخرى لاستكشاف امكانيات الكاميرا وحدودها، هذه المرة من خلال تفحص قابلية هذه الآلة الصغيرة وقدرتها على التقاط الأساطير والروايات التاريخية في أماكن جغرافية معينة. في مجاهل تلك الجبال الفاغرة، ينصرف للتنقيب عن الجانب الحسي والجمالي للأسطورة أو الروايات الدينية، بواسطة عدسته أو من دونها!
يقدم أسطورة بصرية خاصة، توازي الروايات المتناقلة عن ذلك المكان
عام 2010، استلهم عنتر فكرة مشروعه من كتاب كمال الصليبي «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985) الذي حطم فيه حقيقة كانت راسخة حتى ذلك الوقت عن مكان نشأة التوراة. توصّل المؤرّخ والعالم اللبناني الراحل إلى أنّ البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية، معتمداً على معياري الجغرافيا المذكورة في التوراة واللغات القديمة. يشرع عنتر من المكان الذي يقترحه الصليبي لخروج التوراة. وبين خياري نفي هذه الأسطورة أو تأكيدها، يتسلل مع كاميرته إلى مساحة مفتوحة لممارسته الفنية الفوتوغرافية البحت، خارج سماكة الروايتين الدينية والتاريخية. هناك على مشارف عسير، ينهي محاولاته لمطاردة الأسطورة، بصور فنية مستقلة نشاهدها في القسم الأول من المعرض. صور ملونة وأخرى بالأسود والأبيض لجبال عسير وتفاصيله. بورتريهات تفصيلية وبعيدة تظهر جغرافية المكان وطبيعته القاسية وجباله الشاهقة وتضاريس صخوره، وتلك المساحات الضئيلة التي اخترقها المد البشري فهي التي تمنح العمل طابعاً زمنياً حاضراً. تكتنز هذه الصور أسطورة بصرية جديدة وفردية، توازي الروايات المتناقلة عن ذلك المكان. وهو إذ يحاكي كتاب الصليبي، ينتزع منه فعل الهدم أولاً. هدم قدسية الأسطورة والرواية التاريخية والتفلت من سطوتها أثناء التصوير نحو الحاضر. ماذا يبقى من الأسطورة بعد مرور الوقت؟ أين تقبع الأحداث والأساطير؟ أين خطايا آدم وحواء وقوس قزح نوح ومعجزات موسى؟ كيف للكاميرا أن تلتقطها؟ هنا، لن تكون صور عنتر سوى شاهد أعمى على الأسطورة. لا نرى سوى الفراغ الذي تفرشه الجبال أمامنا، والطرقات الوعرة التي تسلب منا انتباهنا نحو أمور جمالية وجغرافيا، بعيداً عن ترف البحث في يقين الأسطورة.
في مقابل هذا البحث الفوتوغرافي التقني، يسائل عنتر علاقة الميثولوجيا بالجغرافيا وقدرتها على الاحتفاظ بآثرها، عبر التقاط الجغرافية المعاصرة. أكملت هذه الفكرة نصوص الروائي السعودي يحيى أمقاسم، التي تتجاور مع صور عنتر. في محاكاة لنصوص التوراة، يكتب أمقاسم مقاطع مستقلة مستعيراً الأسلوب وقصص الأنبياء: «يا ءدم فتش عن سر أنثاك في النور، عن ميراثك الطويل في خدوش البشر. هاتك حتى آخر صرخة من أبنائك، هاتك حتى أول قدم خارج عدن». لا مقدسات، ولا التزام بدقة الروايات التاريخية. على الطريق نفسه، يقدم عنتر القسم الثاني من معرضه. داخل غرفة سوداء، تطالعنا صور بأحجام أكبر من تلك التي شاهدناها قبلاً. لا تفاصيل أو ملامح هنا، بل مجرّد آثار ضوئية تخلط ألوان الأصفر والأزرق والترابي والأخضر. أثناء زيارته إلى السعودية للعمل على مشروعه عام 2012، فقد عنتر عدسة كاميرا تلقاها هدية من عائلته. لم تكن هذه سوى فرصة لمواصلة استكشافاته الفوتوغرافية. من دون عدسته، التقط صوراً ضوئية ولونية لمناطق وأمكنة ووجوه غبشة. يستمد الألوان من عناصر الأسطورة وتحديداً قصة طوفان نوح مع قوس القزح، مقدماً أسطورته اللونية/ الضوئية الحسية. يتلاعب بالسرديات التاريخية والدينية مجدداً، معرياً صوره من هويتها المكانية والزمانية. هكذا يضيف إليها اقتراحات أخرى توازي التبدلات التي تتعرض لها الرواية التاريخية. هناك ظلال لبرج إيفل في باريس، وبيغ بين في لندن، ولقلعة صيدا. كأن صوره ليست سوى ظلال بصرية لأسطورة كمال الصليبي.

* After Images لزياد عنتر: حتى 22 آذار (مارس) ــــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/962000




ما بعد الصورة

في معرضه الحالي أطلق زياد عنتر كتاباً يحمل عنوان معرضه «ما بعد الصورة» عن «دار كف للنشر». إلى جانب الصور، يتضمن الكتاب نصوصاً كتبها هانس أولريخ اوبريست، ومنال خضر، ويحيى أمقاسم وياسمينا جريصاتي. يضاف هذا الكتاب إلى مؤلفين سابقين. الأول أطلقه عنتر بالتزامن مع معرضه «منتهي الصلاحية» (2011) الذي قدِّم في مدن عالمية عدة، وضم صوراً التقطها بأفلام منتهية الصلاحية عثر عليها في «استوديو شهرزاد» في صيدا. وقد ترافقت صور الكتاب مع نصوص بالإنكليزية والفرنسية لأكرم زعتري وفرنسوا شوفال. الكتاب الثاني يحمل عنوان معرضه «ساحل الإمارات» الذي أقامه في الشارقة عام 2012. وقد ضم صوراً توثيقية لساحل الإمارات التقطها بين عامي 2004 و2011.