مع استمرار النزيف السوري، كان طبيعياً (وضرورياً) أن يتسرب ذلك إلى الكتابة والفن. الشعر عادةً هو الأكثر صعوبة في تلقّي هذه التسرّبات. أغلب الشعراء يفضّلون النأي بالشعر عن القضايا الكبرى والأحداث الساخنة، والحجة أن الشعر في جوهره هو ممارسة منافية للمباشرة والخطابية والتقريرية، وأن الشاعر يحتاج إلى مسافة ما عن الحدث. هذا التوصيف لا يزال يحظى بالكثير من الوجاهة والإقناع، ولكنه لا يمنع الشعراء من اختبار الجمع بين ضرورة أن يكونوا شهوداً على الحدث، وأن يطمحوا في الوقت نفسه إلى أن تكون هذه الشهادة شعراً حقيقياً تتحقق فيه جودة الشعر المتحققة في موضوعات أخرى. أفكار مثل هذه تخطر في بالنا ونحن نقرأ ديوان «بلاد سرية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لأكرم قطريب.
لا يحتل المشهد السوري الراهن مساحة كبيرة من ديوان الشاعر السوري المقيم في الولايات المتحدة. هناك قصائد كثيرة منجزة قبل ذلك، ولكن حيثما ظهر مقطعٌ أو صورة أو سطرٌ ممرّغ بتراب تلك «البلاد غير السرية» ودماء أبنائها، يُستدعى الشعر إلى اختبار الجودة بالتوازي مع الأثر النفسي الذي تتركه اللغة على القارئ.

لا يعرّض قطريب نصوصه بطريقة مباشرة إلى هذا الاختبار. ما يُكتب عن سوريا ممزوج بضريبة الحنين والذات المستوحشة والذاكرة القديمة. هناك سياقات واضحة لما يجري كما في «لم يعدْ الموتُ يساوي شيئاً/ بينما مدفعية الهاون على جبل قاسيون/ تدكُّ أطراف دمشق»، ولكن المقطع نفسه مسبوق بمقطع مثل «تتنفسُ في المكان الغريب/ وبلدكَ يبدو آخرَ مكان على وجه الأرض/ محمولاً على كتفيكَ مثل بضاعة ضرورية للحنين».
المعجم غير المتسرّع يمنح الموضوع فرصة أن يصل إلى القارئ كخبر مؤلم ولكنه غير عاجل. هناك نوع من الترجيع والإنشاد الحزين لما يحدث: «بسبب الألم هذه المرة/ بسبب أسئلة طفلي عن المدن التي تنام تحت أجنحة الحمام/ سأحكي له عن شعبي الطيب/ الذي يعيش في زنزانة منفردة/ ويتحدث مع الأشباح/ (..) / شعبي الذي يستحمّ بدم أبنائه في نيسان/ يذهب الآن إلى الشمس/ دون أن يراه أحد». في مقاطع أخرى، يختلط الراهن بالذاكرة الشعبية والميثولوجية السورية، كما في «سوريا قمرٌ مبلل على سطوح المنازل/ لكنها ليست بلاد الموتى/ أحبها لأنها قريبة من البحر/ ولا نهران في الجزيرة الشمالية/ كانت تستحمّ فيهما الآلهة القديمة/ وينام على أحد جنباتها إلى الأبد/ صديقي عبد اللطيف خطاب»، بينما في سطور أخرى نقرأ: «أيتها الحرية ما كنتُ أظنك قاسية إلى هذا الحد».
تضغط هذه المشهديات والاستعارات على الديوان، وهو الخامس للشاعر الذي نشر باكورته «آكان، أحرث صوتكِ بناي» (1995)، وأتبعها بثلاثة دواوين أخرى، ولكن هذا الضغط لا يشمل قصائد أخرى لا يتغير فيها الشعر كثيرا، خصوصاً أن أغلب تلك القصائد تتأرجح بين استعادات من الذاكرة السورية، ومشهديات حالية من إقامته الأميركية. ولعلها ليست مصادفةً أن تكون هذه الذاكرة مهددة بضربة من بلد الإقامة.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza