يعود نبيل سليمان (1945) إلى حقبة الثمانينيات التي عصفت بالبلاد بوصفها نسخة مصغّرة عما تشهده سوريا اليوم من أحداث دامية. روايته «مدائن الأرجوان» (كتاب دبي الثقافية) تشريح لذلك الجسد الجريح، ومحاولة لترميم عطبه المزمن. الأرجوان الذي حملته سفن الفينيقيين منذ قرون إلى شواطئ العالم، لم يعد لوناً إلا للدم المسفوك في أنحاء البلاد. في صبيحة يوم من عام 1981، سوف تستيقظ اللاذقية على اغتيال الدكتور عبد الرحمن هلال في عيادته على يد مجموعة إرهابية، مما يرسم صورة المدينة بالعنف كما تراءى لصديقه واصف عمران، الذي كان ينصت إلى صيحات الثأر، ورشق الرصاص، وسيارات العسكر تجوب الشوارع، قبل أن تصيبه، هو الآخر، رصاصة طائشة، وينقل على أثرها إلى المستشفى. ولعل هذا ما يفسّر ذلك الصوت المشؤوم للبومة الذي كان يسمعه شقيقه من أبيه يزن عمران المدرّس في دار المعلمات. ستتناوب سيرتا الشقيقين على تأثيث الحكاية بسرديات متعدّدة تتكئ على الموروث الشفوي تارة، وعلى المرويات التاريخية طوراً، لتفصح تالياً عن حجم الدمار الروحي الذي ألقى بثقله على حياتهما، في ظل القبضة الثقيلة للعسكر من جهة، والتمرّد المسلّح للإخوان المسلمين من جهة ثانية.
حالما تتفجّر الأحداث في حلب، يقرّر يزن عمران مغادرتها إلى اللاذقية، وخصوصاً أنّ جاره ضابط الأمن معين ابن فتكة، قد أوحى له بأنه مراقب، إذ كان بيته مكاناً صاخباً لاجتماعات الشيوعيين واليساريين من كل الأطياف. سوف تفترق السبل بين أصدقاء الأمس، إذ ينخرط عنان موسى صديق واصف، وزوج شقيقته، في الموجة الإسلامية في حماة، ويعتزل واصف الحياة في شاليه على البحر، بعيداً من زوجته رمزية وابنته ثريا، وتضطرب خطوات يزن في مواجهة فواتير ضخمة كمحصلة لتاريخه اليساري في المقام الأول، ومحاولته تفكيك الألغام المزروعة في طريقه، بعدما اشتدّت القبضة الأمنية على مفاصل البلاد، ونقله تعسفيّاً من دار المعلمات إلى مدرسة ثانوية، ضمن برنامج «التبعيث» الذي اعتمدته السلطة حينذاك. يستنفر صاحب «مدارات الشرق» ذاكرة متّقدة في استدعاء تواريخ مفصلية في حقبة الثمانينيات، بين مدينتين هما حلب واللاذقية بوصفهما مركزي الصراع بين المؤسسة الأمنية، وحركة الاخوان المسلمين. فيما تحضر حماة كمركز للعنف الفكري والمسلّح في آن واحد، فمن هذه المدينة خرج الشيخ سعيد حوّى، مرشد التيار الجهادي، وصاحب كتاب «جند الله ثقافةً وأخلاقاً». الكتاب أثّر في سلوكيات واصف عمران إلى حد ما، وقبله عنان موسى، ليأخذه إلى دروب أخرى. وبين هذين القطبين، يستدعي نبيل سليمان مشهديات متواترة من تاريخ الحلقات اليسارية، وحراك رابطة العمل الشيوعي المحظورة، على نحو خاص، إذ تنتسب شقيقته شفق بحماسة إلى عضوية الرابطة، كما يمزج الوقائع الحياتية لشخصيات حقيقية في السرد التخييلي، فيحضر لؤي كيالي وسعد يكن، وفواز الساجر، ورياض الصالح الحسين، في ذكريات شخصية مع يزن، بالإضافة إلى العروض السينمائية التي وسمت تلك المرحلة بأفلام جان لوك غودار، والموجة الفرنسية الجديدة، والنوادي الثقافية، والصحف، لكنّ يزن عمران ينسحب تدريجاً من هذه المناخات الصاخبة، ويعيش حيرة الماركسي، وهو يصعد عتبات سلّم البرجوازية، بعد أن تفتتح زوجته صبا مكتبة في اللاذقية متخصصة بكتب اليسار، متجاهلة مغامرات زوجها السرية، وعلاقاته النسائية المكشوفة، وأحلامه بأن يصبح كاتباً مرموقاً، وهو ما بدأ في تحقيقه فعلاً، إذ تتكشّف عين الروائي برصد الأمكنة الأثرية، والشوارع ودور السينما، والأغاني الشعبية، والتاريخ القديم للمدينة، مستنجداً بخزّان ذاكرة والد زوجته، الذي ما انفك يقارن بين ماضي المدينة المؤتلف، وحاضرها المسموم بهواء الطائفية الذي بدأ يتسرّب إلى النفوس، مشحوناً بكراهية الآخر. هكذا يُخطف واصف عمران من الشاليه، بعدما وافق على إيواء بعض المطلوبين من السلطة من دون علمه. وباختفائه، يبدأ شقيقه يزن وزوجته رمزية، رحلة البحث عنه في الفروع الأمنية، إلى أن يستدعيه ابن فتكة الذي أصبح رئيساً لأحد هذه الفروع في العاصمة. وبعد مراوغات أمنية، يخبره بأنّ شقيقه قد خُطف على يد مجموعة إرهابية، ثم قُتل، ودُفن في مكان مجهول، ويطلب منه إقامة العزاء في البيت بحدود ضيّقة. يخرج يزن مضطرباً، ويلحق به معين ابن فتكة إلى الشارع «وفجأة دوّى انفجار هائل، وتطايرت في السماء، وفي الأنحاء كافة أشلاء سيارات وبشر وشجر وحجر، واندلقت خوابٍ كثيرة من الأرجوان على الإسفلت».
ليس ما يكتبه نبيل سليمان في «مدائن الأرجوان» تأريخاً لمرحلة، بقدر ما هو شهادة عمّا حصده العنف الطائفي، قبل عقود، رافضاً القتل والتنكيل والثأر، وربما أراد أن ينبّه إلى أن لا تتكرر المأساة نفسها اليوم بالأدوات ذاتها، وإن بمسميات جديدة.



توقيع في اللاذقية

يوقّع نبيل سليمان رواياته الأخيرة بمكان كتابتها، وهو قرية «البودي» في جبال اللاذقية. روايته الأخيرة «مدائن الأرجوان» مذيّلة بتاريخ آب (أغسطس) 2012، كأنّ الروائي والناقد السوري المعروف، أراد أن يوحي لقارئه بأنّ ما يحدث في هذا التاريخ، سبق أن عشناه قبلاً، ويصعب كتابة هذه اللحظة من دون ترميمها بالنسخة الأولى منه.