أعادت المخرجة لينا خوري تقديم مسرحية «لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو ٧١» للكاتب المسرحي عصام محفوظ (1939 ــــ 2006) مع مجموعة من الممثلين المحترفين، بحيث تحوّل «مسرح المدينة» إلى نادٍ ليلي في بداية السبعينات من القرن الماضي.
حين كتب محفوظ نصّه وعرضه على الجمهور اللبناني في «مسرح فينيسيا» في ١١ شباط (فبراير) عام ١٩٧١، تراوحت آراء النقاد وتمايزت بين من اعتبر هذا العمل «سقوطاً» (صحيفة «لو جور») و«تمثيلية استغلالية تجارية فاشلة» (صحيفة «البيرق»)، وبين من وجد فيها «عملاً ناجحاً تعدى به المألوف» (الجريدة) و«مدرسة في المسرح اللبناني الحديث» (صحيفة «الزمان»).
إذا ما قرأنا نص محفوظ، لوجدنا أنّه بني على حدث سهرة ينظمها ويديرها العريف، ويجب الحفاظ على قواعدها حتى نهاية العرض. هكذا، يتم استحضار ثلاث شخصيات تاريخية في «ستيريو ٧١» وهو ناد ليلي يحتضن مجموعة من الأفراد المشتتين سياسياً وفكرياً يحاولون مداواة انكساراتهم عبر طقوس السهر التي عرفتها بيروت في أوائل السبعينات. تأتي سهرة محفوظ الخاصة في «لماذا»، كردة فعل مباشرة على نكسة الـ ٦٧، إذ تجمع سرحان سرحان الشخصية الفلسطينية الأميركية التي قامت باغتيال روبرت كينيدي عام ١٩٦٨ بسبب علاقة هذا الأخير مع إسرائيل، بشخصية فرج الله الحلو، القيادي الشيوعي البارز وأحد معالم النهضة العلمانية في المنطقة العربية، الذي تعرض للاغتيال ولتذويب جسده بالأسيد من قبل المخابرات السورية (١٩٦١). وقد تم ربط هذا الاغتيال برفض الحلو المواقف السوفياتية الداعمة لتقسيم فلسطين. وتجاورهما شخصية أنطون سعادة مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي». القاسم المشترك بين هذه الشخصيات الثلاث هو قضية فلسطين أولاً، ورفضها للواقع المفروض ثانياً، ووقوفها مع الحق والعدالة حتى الرمق الأخير ثالثاً، والقبول بالموت نتيجة مواقفها رابعاً (حكم على سرحان سرحان بالإعدام. وبعد صدور الحكم بفترة وجيزة، تم إلغاء عقوبة الإعدام، فكان مصيره السجن المؤبد).
البطولة، العدالة، الموت وفلسطين في مقابل الرقص، الموسيقى، اللا مبالاة والتحشيش في «ستيريو ٧١». تلك المعادلة ارتآها عصام محفوظ في نصه المسرحي تعبيراً عن شعور شعبٍ عربي كامل بالخذلان والعجز. شعوب تكتفي بالتفرج والخنوع رغم استحضار هامات اتسمّت مواقفها وسلوكياتها بالبطولة. لذا، بنى محفوظ نص العرض على نبض تتشظى فيه مواقف الشخصيات الثلاث تلك، كما تتشظى موسيقى الديسكو من دون استئذان أو رابط درامي بهدف إحداث صدمة في وجه المشاهد. في مقابل النمط التسجيلي لمشاهد مصيرية من حيوات سرحان والحلو وسعادة، تتصاعد اللامبالاة حتى آخر السهرة التي تصل إلى نهايتها بنهاية سرد قصة الشخصيات الثلاث ومقتلها جسدياً أو معنوياً.
بداية موفقة وأزياء ملفتة وتميز في الأداء

بعد خمسة وأربعين عاماً من عرض العمل للمرة الأولى، تنحو لينا خوري نحو رؤية إخراجية تضع نص ورسالة عصام محفوظ في المقام الأول، وهذا أمر إيجابي إذا ما تم الاعتناء بالأسلبة التي قصدها محفوظ من موقف الستيريو برمته: رغم بداية العرض الموفقة والأزياء الملفتة للنظر وتميز كل من أسامة العلي وطلال الجردي وشادن فقيه وعبدو شاهين وغيرهم في الأداء، إلا أنّ العرض بدا في لحظات كثيرة ناقصاً. غابت العناية بالتفاصيل الصغيرة وحضر النص على الخشبة، فبدا أحياناً كما لو أنه صف كلمات تُتلى. إذ لا يكفي أن نجسد حالة التناقض بين مشاهد الستيريو والمشاهد التسجيلية لكل من سرحان والحلو وسعادة بعرض الأحداث كما وردت في نص محفوظ من دون أن نذهب بحالة التناقض تلك إلى أقصاها عبر اعتماد أسلبة أكثر حضوراً في أداء الممثلين والحركة والغناء والرقص. حينها، قد يكون لكل مشهد وقعه وإيقاعه الخاص والأخاذ الذي ينتقل بالمشاهد إلى نقطة جديدة ومختلفة من التلقي. كما لم تخلُ الإضاءة من معالجة كثيرة المباشرة. وكان المشهد الأخير سريعاً في انتقاله من الطقس الديني إلى غناء جماعي لـ «همنا شي؟ لا لا لا. ان مات ٣ أو ١٠، خصنا شي؟ لا لا لا».
أجرت خوري تعديلات على النص الأصلي لمحفوظ، ويعتبر أحدها ذا دلالة وجب التوقف عندها. التعديل الأول والأهم هو الاستعاضة عن شخصية مرافق العريف بفتاة صغيرة، وكان العريف يناديها دوماً بـ «خالو». مثيرة للاهتمام تلك الاستعاضة: هل أخذت لينا خوري هذا الخيار لدواعي لوجستية (كعدم توافر ممثل يلعب الدور غير تلك الفتاة) أم أنه خيار أتى عن سابق تصوّر وتصميم، والهدف منه الغمز من قناة أهل السلطة اليوم الذين بلغ بهم الفحش بحيث باتت هشاشة ممارساتهم السياسية والإنسانية والفكرية تنزل إلى درك تشبيهها بالبيدوفيليا؟ أم أن الموضوع مجرد تذكير بعرض خوري الأخير «كيف تعلمت القيادة»؟ في كل الأحوال كان حضور تلك الفتاة محبباً من ناحية الأداء.
يبقى القول إنّ «لماذا...» تبقى وثيقة فنية تاريخية جمعت ثلاث عمليات قتل تبناها الكاتب عام ١٩٧١ وأصبح وقعها كالصابون الذي يرغو ذات مفعول يدوم ويدوم يدوم، كما لو أنها الأبدية: حاجة عصام محفوظ للتعبير عن خجله وخزيته ككاتب «من موقفنا التفرجي من المواقف المصرية» باتت مضاعفة اليوم في ذكرى غيابه العاشرة. ولعل أفضل ما يكون في تلك اللحظة هو ختام هذا المقال بالجملتين الأخيرتين للعرض:
«مرافق: سيدنا، الواقفين التلاتة عيونهم بعدا مفتحة
العريف: تصوّر لو تظل عيونهم مفتحة على طول».

«لماذا...» للينا خوري: حتى 3 نيسان (أبريل) ـــ 20:30 من الخميس حتى الأحد ــــ «مسرح المدينة» ــ للاستعلام: 01/753010