إذا كان لنا أن نصف أعمال ناجي العلي التي بدأتْ تظهر منذ الستينيات بأنّها أعمال رعاية الأمل في العودة، والتحديق في ظلمة السجون، فإنّ مرحلةً جديدة أكثر ديناميكية ظهرت في رسومه بعد 1967، أي بعد تنامي ظاهرة المقاومة الفلسطينية. ما كان مجرد لمحات وإشارات إلى الفعل، بدأ يتجسد في صورة الفدائي، الذي بدأ يحتل شاشة الوعي، ويقود ريشة الفنان، لكن الفنان الذي احتشد ذهنه منذ الطفولة بحكايات الخيانة والتفريط وطعن المقاتلين من أجل فلسطين في ظهورهم، سيتحوّل إلى ناقد أخلاقي وسياسي من طراز رفيع، قلّما عرفته الثقافة العربية، طراز المحرِّر من استعمار قلما أشار إليه باحث: إنّه استعمار المخيلة.
قدّم إلينا الفن، وفنّ الكاريكاتور الذي مارسه خصوصاً، بوصفه نموذجاً مقاوماً فريداً لعالم حيث تهيمن الصور التمثيلية على الأذهان. هذا النقد الأخلاقي المحرّر سيكون عملاً فدائياً، خطراً وبالغ الصعوبة. أولاً بسبب طغيان ما يمكن أن نسميه «تمثيلات» المثقفين ووسائط الإعلام، وثانياً بسبب ما يدعى فنّ التسويق الثقافي، ذلك الفن الذي يجنّد وسائل ترويج تصنع من الأقزام عمالقة، ومن القردة بشراً سوياً، ومن السماسرة أبطال تحرير، وثالثاً بسبب سطوة قوى تمتلك المال والسلاح وراء صناعة هذه الصور التمثيلية وتسويقها. ترسّخ هذه القوى في أذهاننا صوراً عنها وعن العالم وعن أنفسنا، وتأتي أفعالنا في الغالب كرد فعل على هذه الصور في أذهاننا. ولأننا، بتعبير فيلسوف العلوم السياسية الأميركية والتر لبمان، «أسرى الصور الموجودة في رؤوسنا... وجزء مهم من سلوكنا هو رد فعل على هذه الصور»، نرتكب الأخطاء أو ننساق كالقطعان وراء هذه القوى المهيمنة. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: من أين تأتينا هذه الصور التي تأسرنا وتتحكم في سلوكنا وأفكارنا؟
في عالم اليوم، تؤدي وسائط التربية والتعليم ووسائط الإعلام وبقية وسائل التواصل، سواء كانت بصرية أو لفظية، دوراً في استعمار مخيلتنا. إنها تخلق في تجلياتها المعاصرة «شبه عالم» و«شبه واقع» يحلّ محلّ عالم المدلولات. وكلما زاد انفصال الدال أو العلامة أو الإشارة عما يدل عليه أو يشير إليه، أصبح عالم الأشباه هو العالم الذي لا نعرف غيره.
كاريكاتور ناجي العلي لم يكن للتسلية، بل كان لتحرير المخيلة من الصور التمثيلية. كان أداة صراع جاد على جبهة صراع الأفكار، لا يقل أهمية عن الصراع في الميادين العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. في هذا الصراع، وظف الفنان تقنيات متعددة؛ منها ما هو بصري، ومنها ما هو لغوي، لإعادة بناء العلاقة بين الدال والمدلول، بين الاسم والمسمى، أي العلاقة بين الصورة والكلمة، وما تدل وتشير إليه وتسميه في الواقع الملموس الخبرة والتجربة، أعني تجربة الإنسان الفلسطيني بخاصة، والإنسان بعامة. اجتهد ناجي العلي بل قاتل واستشهد، من أجل البرهنة على أنّ هناك عالماً وهمياً تزرعه في الأذهان مصالح طبقية وسياسية واقتصادية تحلّ صوره محل صور عالمنا الواقعي وتمحوها.
كان ساخراً وضاحكاً، تطلق فينا رسومه القدرة على السخرية من الوحوش الخرافية وصورها، من شيطان السطوة نفسه، فيظهره مهرجاً أحمق في سيرك، يجرده من كل أقنعته، ويسحبه عارياً من عليائه إلى الأرض، زاحفاً مثل حيوان منقرض. ولكي يتحرر الناس، ولا يتصرفوا أو يفكروا بطرق خاطئة مصدرها الصور الراسخة في أذهانهم، يستثير فيهم الفنان وعياً بالأسر الذي يقعون في سلاسله، أو بعبارة مختصرة، يحرّرهم من قبضة الصور التي تصنعها ألاعيب سياسية واقتصادية واجتماعية، ويفتح أمامهم أفقاً لوعي حيث مواطئ أقدامهم في العالم
الملموس.