لا أعلم ماذا يفعل محمود درويش (1941 ـــ 2008 ـــ الصورة) الآن؟ خمس سنوات من الغياب كفيلة بإنجاز خمس قصائد طويلة على الأقل، وربما أنجز ديواناً كاملاً، مَن يعلم؟ على الأرجح، فإنّه غارق في تصحيح المسودات، وترميم الإيقاع، وسط صخب الموتى، والإنصات إلى تأثير «النهوند» على البروفة الأخيرة للنص الأخير، لكن ماذا يفعل الشاعر المحزون في غرفة الموسيقى وغبار الكمنجات في غياب العازفين؟ أسمع رنين النرد فوق الرخام. هل وجد لاعباً بمهارته في تحطيم البيادق؟ ماذا لو أنه لجأ إلى كتابة «الهايكو» في فسحته الجديدة؟ أظنُّ أن الضربات السريعة الخاطفة في كتابة نباتات الجليل تناسبه أكثر في اختبار أنواع الزهور البريّة. سيحاور إدوارد سعيد في هذا الشأن. على الأرجح أيضاً، سيهزّ الأخير رأسه موافقاً بحماسة، وهو ينقر بأصابعه على الطاولة مقارناً بين ضربات السونيتة وضربات الهايكو. في عزلته الطويلة، سوف يعيد كتابة «يوميات الحزن العادي»، وسيكتشف مرّة أخرى أنّ «الطريق إلى البيت أجمل من البيت»، لكنّه في المقابل، سيعلّم الموتى، أهمية «أثر الفراشة» في استعمال المجاز. كان يوم 9 آب (أغسطس) طويلاً ومضجراً ومربكاً. كيف سيغيّر صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» عاداته اليومية في غرفة ضيّقة بلا ستائر، برفوف مكتبة فارغة، تخلو من ديوان المتنبي، وأناشيد الميثولوجيا الكنعانية، وموسيقى موزار؟ لا شك في أنّه سيودّع التراجيديا إلى الأبد «علينا أن نتفهّم أسباب التراجيديا لا أن نبرّرها» يقول مكرّراً فكرته القديمة. وسيكتشف عن كثب «إيثاكا الأنقاض» من دون إبحار. هنا لا يحتاج إلى كتابة «جدارية» أخرى، فقد أنجزها قبل غيابه بقليل. سيذهب إلى شؤون عاطفية و«غراميات مرحة»، و«ورد أكثر»، ونساء لم يتسنَّ له الكتابة عنهنَّ، في غمرة انشغاله بنتائج عملية القلب المفتوح. هل انتبه الأطباء حينذاك إلى أسراره التي لم يقلها لأحد، وهي تسيل من الأوردة المفتوحة؟ لو لم يكن البريد إلى جنّة محمود درويش معطّلاً، لكنّا إزاء مجازٍ مختلف، و«طباق» آخر، سيعيننا على مقاومة العطب والألم والندم. مقعده شاغر في الحديقة، فيما فلسطين تبتعد أكثر في غيابه. أخشى أن يبتلع البلدوزر الإسرائيلي قبره أيضاً، في بلاد لم تعد لأهلها. كنتُ أرغب معرفة رأيه في زلزال الخرائط العربية، لكن انفجار قذيفة في الجوار، عطّل الفكرة تماماً.