هل ما زال مفهوم الصورة على حاله، كما عرفناه لغاية عصر الصورة الفوتوغرافية والسينما، أم أنّ اختراع الصورة الرقمية غيّر هذا المفهوم تغييراً جذرياً لجهة التوثيق والوظيفة وأصالة المعنى البصري؟ سؤال يطرحه جاك أومون (1942) في كتابه المرجعي «الصورة» الذي صدر عام 1990 قبل أن ينتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (المنظمة العربية للترجمة، توزيع «مركز دراسات الوحدة العربية ــ ترجمة ريتا الخوري).
يستعرض العمل تاريخ الصورة وتطورها تقنياً وجمالياً، في ست مقاربات نظرية، ترصد بعمق معنى إدراك الصورة، ووظائفها المعرفية، وقدرتها على التأريخ والتأثير. وفقاً لما يقوله هذا الباحث الفرنسي، هناك ثلاث عمليات أساسية تتحكّم بقيم الصورة في علاقتها مع الواقع، هي: المعرفة، والاتفاق، والوهم، أو القيمة التمثيلية (الحسيّة)، والصورة الرمزية (المجرّدة)، والقيمة الإشارية التي لا تعكس مضموناً ظاهراً للعيان. سلطة الصورة إذاً تتجاوز طغيان اللغة لتخلق مجازها الخاص في علاقتها مع المتلقي، سواء في بعدها التشكيلي أو الأيقوني، فيما تتعقّد المسألة أكثر في العلاقة مع الصورة المتحرّكة، والسينما والفيديو لجهة الانتقال من البصري إلى الخيالي في رحلة لم تتوقف، منذ اكتشاف رسوم الكهوف إلى اليوم.
يتوقّف الباحث الفرنسي عند سطح الصورة وإطارها وحجمها، معتبراً أنّ هذه العناصر أساسية في إدراك الخطاب البصري، وعمليات تركيب الصورة في اللاوعي.
يتكئ جاك أومون في تفسير تاريخ الصورة إلى علوم ونظريات موازية، يرى أنّها أساسية لتوضيح ألغاز الصورة وطبقاتها وجمالياتها من خلال التفكيك والنظرية البنيوية والسيميائية، لافتاً إلى الطاقة الرمزية التي تتحكّم بأرشيف الصور، وفقدانها قدسيتها الروحية التي تراجعت بتأثير تحوّلات المرئي، وتراجع «الحقبة البصرية» التي وسمت الأعمال التشكيلية، والبورتريهات الأيقونية، حين كانت جداريات الكنائس بمثابة «الكتاب المقدّس بالنسبة إلى الأميين». وهنا تشتبك الصورة بالنص، فأيهما أكثر بلاغة: شخصية مرسومة، كما لو أنها صورة معكوسة بمرآة، أم مقطع من إلياذة هوميروس؟ يجيب: «إن الصورة تتفوّق على النص لجهة الإثارة، وتقل قيمة عنه على الصعيد المعرفي». لكن تبعاً لنقاشات ساخنة اندلعت في النصف الثاني من القرن العشرين، اتفق منظرو تلك المرحلة على أنّ «النموذج الوحيد الذي يُمكن التفكير فيه لإنتاج المعنى، هو ذاك الذي تقدمه اللغة، لصعوبة نقل المفاهيم الأساسية الخاصة بالألسنية البنيوية إلى الصورة»، على أن التطوّر المذهل للصورة أتى مع اختراع الصورة الرقمية، رغم احتمالات التنقيح والتعديل والخداع، وزيادة الشعور بالسيطرة على محتوياتها، في الذهاب إلى نقيض الأصل، ما يعيد النظر جديّاً في المفاهيم التي تتعلّق بسلالة المرئي والجمالي، ووضعها في سياقات جديدة، أو ما يمكن تسميته بالتقنيات المخلوطة. وهو ما أفرز صوراً هجينة بسرديات متجاورة، وطبقات متفاوتة في المعنى، والقيمة التوثيقية التي تحمل شهادة عن العالم.
ويتساءل جاك أومون عمّا إذا كانت هذه الوسائط غيّرت علاقتنا بالصورة؟ يستعيد هنا ما طرأ على المتحف باضطراره إلى استقبال الأشرطة السينمائية كوسيط لعرض محتوياته من اللوحات، وكذلك أدت القنوات التلفزيونية دوراً حيوياً في تدفّق الصور إلى البيوت، ما جعل الصورة تفقد جزءاً من استقلاليتها من دون أن نقصي عنها خصوصيتها كنتاج بشري تصويري، يحشد كفاءات نفسية وثقافية متعددة.
أياً تكن هيبة الصورة أو تفاهتها، وسرعة زوالها، يبقَ الواقع أنّ الصورة تظهر لنا كظاهرة فريدة تستدرج حالات ذهنية وانفعالية وعاطفية «قد تختلف من الناحية الأنطولوجية حتى عن كل الحالات المتبقية، وهذا لا يفسر فقط من خلال قدرة الصورة على نقل معلومات بشأن شيء ما في العالم». ويضيف موضحاً متاهة المرئي بقوله: «ما يبقى أمام أي صورة، هو الفعل الصافي المرتبط بوجودها الاستثنائي: وهي تجربة عن المرئي تختلف عن التجربة العادية». الزخم التقني والفلسفي والنفسي الذي تحتشد به فصول الكتاب، في قراءة الصورة وعلاقتها بالرسم والفنون الأخرى، يبدو عسيراً، للوهلة الأولى؛ إذ يحتاج إلى فحص طبقات الصورة في أبعادها المتعددة التي تتجاوز، في الواقع، لحظة التأمل، إلى اللاوعي. وتالياً، فإنها تستدرج قراءات مختلفة للربط بين الصورة والوسائط الأخرى، لفحص خصوصية كل صورة على حدة، تبعاً لتعدد وجهات النظر الجمالية.