القاهرة | عشرة سينمائيين مصريين فقط كانوا في «مسجد السيدة نفيسة» في القاهرة أمس يودّعون المخرج الكبير توفيق صالح (1926 ــ 2013) قبل أن يوارى في الثرى بجوار نجيب محفوظ في مقبرة العائلة على طريق الفيوم. هكذا، فقدت السينما العربية أحد أبرز أعلامها الذين اشتغلوا طويلاً في ابتكار لغة سينمائية خاصة، جعلته أيقونة تلخّص عطاء جيل كامل رغم قلة أعماله (٧ أفلام روائية طويلة).
أحد روّاد الواقعية في السينما المصرية، ولد في الاسكندرية عام ١٩٢٦ ورافق في سنوات دراسته مخرجاً آخر تمرّد في سياق مختلف هو يوسف شاهين الذي قاده تمرّده إلى رسم صورة أخرى للمخرج السينمائي كانت أكثر شعبوية، مقارنةً بصالح الذي اتهم دوماً بكونه مخرجاً نخبوياً. غالبية الأفلام التي صنعها، تأسّست على نصوص أدبية (راجع المقال المقابل) وانشغلت بأبطال عانوا من مأزق وجودي، وهو الهاجس الذي رافقه في أفلامه الأخرى («صراع الابطال»، «درب المهابيل»).
المطّلع على سينما توفيق صالح يلمس فيها انفتاحه على الفنون والآداب الأخرى التي دعمت عمله المميز. هو لم يكن مخرج «تكنيك» فقط بقدر ما أظهر انحيازات تتعلق بالرغبة في التأسيس لرؤية جمالية انطلقت من تجاور الأنواع الأدبية والفنية. انفتاح يسهل ردّه إلى سنوات طفولته في الإسكندرية الكوزموبوليتانية ودراسة السينما في فرنسا التي دعّمها بدراسات لفنون الرسم والتصوير وعلم الجمال. إضافة إلى هذا الانحياز الجمالي، عمل صالح على التفكير في السينما أداةً للتغيير والتوعية حين عاد إلى القاهرة في كانون الأول (ديسمبر) 1953.
بعد ثورة ١٩٥٢، كانت لديه هواجسه إزاء ضبّاطها. خلال تلك الفترة، تعرّف إلى صديقه نجيب محفوظ الذي ضمه إلى شلّته «الحرافيش» وشاركه الهواجس المتعلقة بشعار «الكلّ في واحد» الذي دعمه الضباط الأحرار وأدى الى إلغاء صوت الفرد. هواجس انعكست في أعمالهما المشتركة التي جاءت بعد ذلك، وكانت في معظمها مؤسّسة على أفكار توفيق صالح. لكنّ محفوظ نصحه دوماً بعدم تنفيذها بصورتها الحادة «لئلا يتهم بالشيوعية». هكذا، فإنّ محفوظ الذي كان قد قطع شوطاً مع صلاح أبو سيف، أعاد صياغة هذه الأفكار، مغيّراً موقع الأحداث إلى حارة قاهرية، فأعطاها عنوان «درب المهابيل»، ثم عملا معاً على كتابة سيناريو الفيلم الذي أنتج عام 1955. بعد ذلك، أدت الصدفة دورها بعد مرض المنتج والمخرج عز الدين ذو الفقار، فانتقلت إلى صالح مهمة إخراج فيلم «صراع الأبطال»، فقام بتعديلات على السيناريو وأخرج الفيلم سنة 1962.
في أفلامه الأولى، لم تلتفت الرقابة الناصرية إلى ما احتوته تلك الأفلام من أسئلة. لكنّ صدامه الحاد مع المؤسسة بدأ حين راح يناقش الحالة السياسية في مصر في فيلم «المتمردون» الذي أنتج عام 1966 أي قبل النكسة. أجبرته الرقابة على إضافة نهاية جديدة للفيلم وإدخال تعديلات على السيناريو، فلم يشفع له بأنّ أحداثه ــ على الشاشة ــ تدور قبل الثورة. ولم يصرّح بعرض الفيلم إلا عام 1968 أي بعد أحداث يونيو 1967. أما فيلم يوميات «نائب في الأرياف» (1968 ـ مقتبس عن رواية توفيق الحكيم)، فقد أجيز عرضه كاملاً من دون حذف بأمر من جمال عبد الناصر الذي كان معجباً بتوفيق الحكيم وأدبه بعدما كان أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي قد اقترحوا 16 حذفاً.
لكن أجواء النكسة وما أحاط بها من تشكيك في جدوى المشروع القومي ذاته، أصابت توفيق صالح بما كان يسمّيه «الغصة» التي راكمت من شعوره بالاغتراب والنفي، وخصوصاً مع تراجع دور المؤسسة العامة للسينما في مصر، فقرّر الرحيل وتنقّل بين سوريا والعراق الذي استقر فيه لتدريس السينما حتى لُقِّب بـ«سندباد السينما العربية».
في عام 1972، أخرج فيلم «المخدوعون» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق) في سوريا عن رواية غسان كنفاني الشهيرة «رجال في الشمس» الذي يمثّل طفرة في دعم القضية الفلسطينية. وانعكست فيه طاقة الغضب من مذبحة أيلول الاسود ونكبة موت عبد الناصر. نال الفيلم العديد من الجوائز عالمياً وعربياً، وكان متوقعاً أن تمضي مسيرة توفيق صالح إلى المزيد من التألق لولا ظروف الانفتاح الاقتصادي في مصر وطغيان موجة الأفلام التجارية، ما دفعه إلى الاستقرار في العراق والقبول بـ«سقطته الأشهر» أي إخراج فيلم «الأيام الطويلة» (1980) عن صدام حسين. حتى بعد عودة صالح إلى مصر في منتصف الثمانينيات، كان ثمة جيل آخر يعلن مشروعاً مختلفاً هو جيل عاطف الطيب، وخيري بشارة، ومحمد خان، وداود عبد السيد الذي تجاوز لغة الرمز التي ميّزت سينما صالح، وراح يوجه نقداً جمالياً واضحاً لكل ما عاشته مصر. نقد لم ينج منه جيل صالح نفسه الذي كان ضرورياً التخلص من سطوته الجمالية والإبقاء عليه كأيقونة يمكن الشغب معها من دون المساس بقيمتها التاريخية.