كان يمكن لجاك فيرجيس أن يتقاعد قبل سنوات ويقضي بقية عمره نافثاً سيجاره الذي أحبّ، لكنّ المحامي الثمانيني كان يشعر بعقدة ذنب أنّ جورج عبد الله ما زال رهينة قضاء بلاده الذي تعرّض لاهانات متكررة من السلطات الأميركية. لم يمل فيرجيس من تقديم طلبات الافراج المشروط عن الاسير اللبناني في السجون الفرنسية منذ عام ١٩٨٤ بعدما حصل عام ١٩٩٩ على حقّه بطلب الإفراج.
وقف فيرجيس ثماني مرات أمام محكمة تنفيذ الاحكام الفرنسية، مذكراً بأنّه ليس من حق دولة أجنبية، وإن ظنت نفسها سيدة العالم، أن تتسلط على القضاء الفرنسي، أو أن تعبّر عن رفضها الصارم لقرار سيد قد يتخذه وهي تضرب بقبضتها على قوس العدالة.
راهن فيرجيس على أنّ نظرية القاضي الفرنسي الشهير بونفيل دو مارسانجي الذي قاد حملة واسعة لصالح الإفراج المشروط عام 1874، ستنتصر في القرن الحادي والعشرين، وأنّ الادارة الفرنسية لا بد لها في نهاية المطاف أن تبرهن للادارة الاميركية أنّ العقوبة وحجز الحرية هما من اختصاص الدول المسؤولة فقط، لا من اختصاص جيرانها أو حلفائها.
عام ٢٠١٠، سبقته الى بيروت وزيرة العدل الفرنسية ميشيل إليو ماري. سمعت اليو ماري في قاعة نقابة المحامين اللبنانيين هتافات الحرية لجورج عبد الله، فردّت بالقول «إنها مع حرية الرأي، شرط التعبير بلباقة». جاءها الرد سريعاً من فيرجيس الذي حضر الى عاصمة المقاومة العربية برفقة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق رولان دوما، قائلاً «تقول اليو ــ ماري إن جورج عبد الله مجرم، وأنا أقول لها إنك كاذبة، وأنا جاهز لكي أثبت كذبك». حدّق فيرجيس مليّاً في «صديقه القديم أنيس النقاش» وقال: «استطاعت الحكومة الإيرانية أن تطلق سراح أنيس من السجن الفرنسي، قد تقولون إنّ إيران دولة قوية ولديها نفوذ (...) لكن يكفي أن تقول السلطة اللبنانية إن أبوابنا مفتوحة فقط أمام فرنسا إذا أفرجت عن جورج عبد الله».
ظن فيرجيس أنّ القضاء الفرنسي الذي اطلق سراح فيليب بيدار القائد التاريخي للحركة الاستقلالية «إيباريتاراك» Iparretarak في شباط (فبراير) عام ٢٠٠٧، لا بد من أن يمتلك الجرأة الكافية لاطلاق سراح عبد الله، ولم يتوان عن استفزاز القضاة في مرافعته حين دعاهم الى التشبه بنظرائهم الالمان الذين اطلقوا سراح بريجيت مونهوت، قائدة «الجيل الثاني» في المجموعة اليسارية الألمانية «الفصيل المسلح الأحمر». اعتقد فيرجيس أنّه «قد ولى عهد النواب العامين، وجاء زمن المؤرخين»، لكن خيبات الأمل كانت تكرر نفسها دون أي ملل. مطلع العام الحالي، خاض فيرجيس معركة جديدة مع ادارة بلاده، وتبين أن اليو ماري التي كانت تكذب، قد اورثت مهنة الاستزلام للادارة الاميركية الى خليفتها كريستيان توبيرا. لا فرق بين حكومة يمينية أو اشتراكية إلا بمقدار التبعية والتزلف لأميركا واسرائيل. نزلت طعون النيابة العامة الفرنسية ضد اطلاق سراح عبد الله كزخات المطر، فيما تولى وزير الداخلية المتعاطف مع الصهيونية مانويل فالس تعطيل قرار ترحيل عبد الله الى لبنان طيلة أربعة اشهر، الى أن أصدرت محكمة التمييز الفرنسية قرارها ــ الفضيحة بتعطيل الافراج عن عبد الله.
وفي وقت كان عبد الله يستعيد فيه أغراضه التي وضبها استعداداً للرحيل من زنزانة سجن لانميزان، كان المرض يقترب ببطء من فيرجيس عند عتبة عقد التسعين. ثقل لسانه وجحوظ عينيه لم يمنعاه من الحديث لمرات عدة الى الاعلام الفرنسي الذي لم يستطع ستر عورة «الاعتقال التعسفي» التي ظهرت بها فرنسا في قضية جورج عبد الله. «يجب أن يُشعر أصدقاؤنا المتعجرفين الأميركيين أنّ فرنسا ليست مومساً» كان وقع هذه العبارة مدوياً، لكن فرنسوا هولاند لم يكن يمانع لعب هذا الدور، ورهان فيرجيس على الحد الأدنى من الكرامة الوطنية لدى الجانب الرسمي اللبناني كان خاسراً أيضاً.
هل تعني وفاة فيرجيس نهاية مرحلة الدفاع «عن القضايا الميؤوس منها»؟ يصعب الاجابة عن هذا السؤال قبل أن نعرف مَن سيخلف فيرجيس في عشرات الملفات المكدسة فوق مكتبه الأنيق. الأكيد أنّ قضية جورج عبد الله بعد فيرجيس تحتاج الى اختيار بين مسارين: إعادة المحاكمة أو طلب الافراج المشروط التاسع. والى حينه، سيبقى عبد الله وحيداً في مواجهة سجانه بعدما خسر رفيق دربه الذي أحبّه بصدق، مستقبلاً في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل عقده الثالث خلف القضبان.