كممثلة، لقد أدخلني مسلسل «باب العمود» الذي عُرض في رمضان 2013، إلى بيوت الناس وعقولهم وقلوبهم السخية. وعلى رغم أنّني أخاف في العادة من هذه المواجهة، التي تبدو مخيفة لشخص يخلق شخصياته ويسجّلها ويتعامل معها على الورق، إلا أنه أيضاً أخضعني للنظر في عيون الناس في حارة السعدية في القدس القديمة وأزقة باب العمود والابتسام والشعور بالفخر للانتماء إلى هذا المكان الأكثر من جغرافيا والأعمق من تاريخ. إنه يحدث الآن، يحدث في كل لحظة.
ليس هناك أكثر من الفجوات التي أظهرها عرض مسلسل «باب العمود» على شاشات التلفزة الفلسطينية، هذه الدراما المقدسية التي أظهرت اغتراب المشاهد عن مدينة القدس. القدس الأكثر من مدينة عالمية بجنسيات مختلفة، والأكثر من مدينة فلسطينية ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، والأكثر من مساحة ضيقة بنزاعات فكرية ودينية وثقافية لا حصر لها. القدس التي قدمها المسلسل هي قدس الناس، قدس التفاصيل اليومية لحياتهم المتعبة، قدس القصص العادية التي تتوالد مع كل يوم جديد.
القدس الزاخرة بالأضداد والعامرة بطيبة أهلها وصمودهم وسخريتهم من الواقع. القدس التي خرجت من أزقة البلدة القديمة فجأة لتدخل إلى حياة الناس في منازلهم، وتقدم إليهم قدساً جديدة. ليس لحداثة ما عُرض، بل لقدم صورة القدس في ذهن المشاهد الفلسطيني والعربي، ولنمطيتها المخيفة التي أسهم الاحتلال والحصار ونشرات الأخبار في ترسيخها، ليتحول وجع المدينة من وجع إنساني إلى وجع ديني وجغرافي وتاريخي.
وقد تكون الفجوة الأكثر وضوحاً التي أبرزها عرض المسلسل أيضاً هي الفراغ السحيق بين المشاهد العادي والطبقة التي تدّعي أنّها «الطبقة المثقفة» التي تتشدق بكلام كبير وتفتقر إلى الحساسية الكافية لإدراك قيمة هذا المسلسل بالنسبة إلى القدس. إنّنا نعي الحجم الذي جرى تحميله للمدينة على مدى السنوات السابقة، والتغييب الذي فرض على حكاياتها العادية واليومية قسراً. الدراما الفلسطينية على نحو عام ليست قادرة بعد على نقد ذاتها. بسبب قلة الإنتاجات المحلية وضعف الخبرات التقنية والإنتاجية والفنية، لا تزال هذه الدراما في مرحلة التثبت من هويتها. لذا، تأتي مقارنة أي عمل جديد بالدراما العربية الشقيقة التي قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، إجحافاً لها وليس أكثر من مجرد نقص في مفرداتنا النقدية الخاصة.
وهنا يبدو طرح فكرة مهمة وارداً، فمعظم أصحاب التجارب المهمة من المخرجين والفنانين الفلسطينيين الذين يحصلون على إنتاجاتهم من جهات أجنبية على الأغلب، لا يستثمرون ذلك في تطوير الفنون البصرية والسينمائية المحلية، حيث تُستورَد المواد والموارد التقنية والفنية من الخارج، وحتى الممثلون أحياناً، وربما نسأل أنفسنا: أين هم من تطوير ثقافة المشاهدة لدى الجمهور العادي، كأننا في فلسطين، ينجز الكتّاب للكتاب الآخرين، ويصنع السينمائيون أفلامهم لنظرائهم من السينمائيين.
ما فعله مسلسل «باب العمود» الذي صنع جماهيريته الخاصة من انحيازه إلى المشاهد العادي، هو إثارة هذا الجدل الواجب: لمن نصنع الفن الفلسطيني إن كان المشاهد العادي يعزف عن مشاهدتنا وقراءتنا؟ كيف نطوّر عنده ثقافة المشاهدة والنقد والتقبّل إن لم نعمل على خلق شخصيات قريبة من منطقه، تحاكي حياته اليومية وهمومه؟ وهذا ليس تقليلاً من احترامنا للفنّ على الإطلاق، بل احترام لأنفسنا وتقرّب وواجب إنساني لا تعاليَ فيه. ودعونا لا ننسى أنّ المسلسل أُنتج محلياً على نحو كامل من تقنيين وممثلين وكتاب ومخرجين. كيف يمكن أن نصنع تراكماً في التجربة الدرامية الفلسطينية إن لم نخطئ ولم نراكم تجاربنا ونعمل على إنجاحها مرة بعد مرة؟
* كاتبة وممثلة، جسّدت شخصية حسنية في مسلسل «باب العمود»



بلا روتوش

للمرة الأولى، حضرت الدراما المقدسيّة في رمضان عبر مسلسل «باب العمود» للمخرج إسماعيل الدباغ فعُرض على قناتي «الفلسطينية» و«فلسطين»، قبل أن يتوقّف عرض حلقاته الأخيرة على «فلسطين» بسبب عدم تسديد مستحقّات أسرة المسلسل (راجع المقال أدناه). العمل («مسرح الرواة» المنتج المنفّذ) صوّر في البلدة القديمة في القدس المحتلة، ليضيء على الحياة الاجتماعية اليوميّة في القدس في مواجهة الاحتلال. نرى معاناة الناس ضمن قالب ساخر مع شخصيتين أساسيتين: حسن بظاظ (يؤدي دوره اسماعيل الدباغ) الذي يعمل في إصلاح الغسالات في بيوت الحارة، فيلتقط أخبارها وقصصها، آملاً أن يجد منقذاً يحسّن وضعه الاقتصادي والاجتماعي. أما زوجته حسنية، فتؤدي دورها الكاتبة والممثلة مايا أبو الحيات، التي تكشف أسرار بيوت الجارات وأحلام زوجها.



القيود الإسرائيلية

تكمن أهمية «باب العمود» في تغلّبه على الحواجز التي يفرضها الاحتلال على القدس. هكذا، دخل التاريخ بوصفه أول عمل درامي يصوّر في حارات وأزقة البلدة القديمة. علماً أنّ «السلطات الإسرائيليّة» تفرض الحصول على تصريح سابق لتصوير أي مسلسل هناك.