بيان «نخبوي» آخر منتشر على فايسبوك قال لك إنّ في المجتمع المصري انقساماً بين فصيلين لا حَكَم بينهما إلا «الثورة». ومن غير ما يتعرّض لحقيقة أنّ ثورته هذه لم تحترم المواطنة لحظة واحدة منذ قيامها وأنها اعتمدت في قلة احترامها على تفوق أخلاقي مفترض ودفق عاطفي جياش لا فائدة سياسية ولا صدقية لهما بعد كل ما جرى، اعتبر البيان «مؤيدي الرئيس» أحد فصيلي الانقسام. لم يفرّق بين ناس مسالمين يريدون استرداد هامش استقرار وحرية أو عقلانية كان موجوداً بالفعل رغم ديناصورية النظام الساقط ومشروع التوريث، وبين مهاويس، مستعدين لحمل السلاح دفاعاً عن الشريعة الإسلامية كما «الشرعية الديموقراطية»، ولا يُخفون رغبتهم في شطب هذا الهامش بين يوم وليلة. بين يديك إذاً دليل إضافي على أن الطريق إلى أفغانستان مفروش بالنوايا «الثورية».
في هذا السياق، يصمّم البيان شأنه شأن غالبية المعسكر الثوري على تزييف ما جاء به «٣٠ يونيو ٢٠١٣» من ارتداد صريح على حراك غير مسؤول غلّب الإخوان المسلمين وملحقاتهم فرآه «استمراراً لـ «٢٥ يناير ٢٠١١»»، وبنفس الوقاحة التي كادت تأتي على الدولة وما فيها، قال لك «الآن وليس غداً».
يعني: المنظّرون أنفسهم الذين اتّهموك مرّة بـ «الإسلاموفوبيا»، ومرة بأنّك «فلول»، ومرة بشيء آخر نسيته لأنك تقول إنّ نظام مبارك يظل دائماً أفضل بما لا يقاس من عته الأصولية والإرهاب المترتب عليه، لا يؤرق ضمائرهم في كل ما جرى إلا الشيء الوحيد الحقيقي في «٣٠ يونيو» وحملة «تمرد» وما ترتب عليهما من تدخل المؤسسة العسكرية، وهو الرفض الشعبي الكاسح ليس للإسلام السياسي وحده، بل لـ«شمامي الكلة» الذين جاؤوا به عبر مسلسل ساقط من المغالطات والتناقضات، وإصرار عموم الناس الواعي جداً على احتكار الدولة للعنف ووحدة الجيش وبقاء المؤسسات.
عندما يندد الموقعون على البيان بتغليب فصيل من الفصيلين على الآخر عبر تدخل الجهة السيادية الوحيدة الباقية عملياً، محذرين من الانقلابية وداعين إلى «استكمال الثورة»، فأنت طبعاً تفرح بالشتم الذي يتعرّضون له رداً على تنديدهم ودعوتهم. لكن ما يلفت نظرك أنّ ما حدث مذ قررت الثورة أن «تعصر على نفسها ليمونة» محبذة نار مرسي على عار شفيق وما إليه، لم يؤثر على انحيازات هذه «الجزم» القديمة التي يلبسها الإخوان ليدوسوا بها على قيمك من أول لحظة، سواء كانت يسارية أو حقوقية أو مازوخية أو أي بلاء أزرق ممعن في بجاحته.
وعليه، يخطر لك خاطران تاريخيان أجدر بالـ«سيرورة»، ربما مما تقوله جزم الثورة عن نفسها، هما أنّ الطائفة الإسلامية (في مقابل عموم المسلمين بالولادة) تخلت طوعاً عن حقوق المواطنة. هذه الطائفة لم تدّخر جهداً في إقصاء وتصفية سواها من طوائف المجتمع المسماة جمعاً «الفلول»، سواء من خلال القنوات المؤسساتية بما فيها صندوق اقتراع أجوف كطبلة، والقفز على المسلمات القانونية والتنفيذية وتعميق الفساد الإداري والمالي والكذب القراح على طريقة الشموليات الآفلة أو مباشرة عبر قتل وتعذيب الناس في الشوارع. إن الطائفة الإسلامية لم تكن عمرها فصيلاً. لكن بهذه الممارسات وبإنكار كل مقوّمات المدنية، إنما تخلت عن حقوقها فعلاً. وأنت لم يعد عندك من يتحدث عن الحقوق المدنية لهذه الطائفة أو يقاوم التعامل الأمني العنيف معها من جانب الدولة أو يخلط بين أهدافها وأهداف التحول الديموقراطي إلا صفعة حارة في الوجه. أما الخاطر الثاني والأهم فهو أنّ الكارثة الحقيقية في مصر الآن هي الإنكار التام لكون الإسلام السياسي تعبيراً مشروعاً عن العقيدة الإسلامية. عندما يسمح مجتمع ما بما فيه دولته للدين أو التدين بالحضور الكثيف والإقصائي في المجال العام، يكون «الإخوان» هم النتيجة الطبيعية الموضوعية.
أما الكلام كما لو أنّ الإسلامي هو كائن فضائي غريب سقط من السماء، والإشادة الخرقاء باعتدال و«وسطية» الأزهر مع الهرولة إلى «علمائه» كالأوصياء الأحق بوصفهم دعاة حرية، بينما هم في الحقيقة الأكثر رجعية في ما أنتجه هذا المجتمع على الإطلاق، والمزايدة على الأصولية في العقيدة، وتصوير المسألة كما لو كانت صراعاً بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيّف... هذا كله من قبيل علاج الأعراض التي يسببها فيروس ما عن طريق تغذية ذلك الفيروس وتهيئة الجسد المريض للمزيد من استفحاله. فما يعمله كاتبو البيان بالثورة، يعمله المجتمع الواسع بالإسلام.
الواقع أنّ محمد حسان هو التطور الطبيعي لشيخ الأزهر، وخيرت الشاطر هو الصورة المعاصرة لجمال الدين الأفغاني. والواقع أن العمى عن ذلك أخطر حتى من ممالأة الإسلام السياسي على المدى الطويل. المشكلة إن لم تكن في الدين كدين، بل في حضور وفرض وتملق الدين كعنصر قسري من عناصر المجال العام، وإنكار حرية العقيدة والحق في الإعلان عن الاختلاف، وتكرار أكاذيب الوحدة الوطنية وسماحة الإسلام وطيبة الشعب «المتدين بطبعه».
مَن يحمل السلاح ويرهب المواطنين، يجب أن يُستأصل بحسم تام، ومن لا يريد ذقوناً وأجولة سوداء في الحياة يجب أن يكفّ عن دعارته «الوسطية». أما من يظن أنّ انحيازاته «الثورية» التي نقضها الواقع فعلاً، فهذا لا يقال له إلا: عند أمك...
عند أمك يا جزمة!

■ ■ ■


الأمل خيانة
«سكن للغرباء» مكتوبة على الحائط
والملاك، ربما أكثر من ملاك
ووجع الدخان كفزع الموت حتى تدرك أنه ليس موتاً
كنت في مساحة متر مربع
لا يمكن أن أصف لك الآن الرنين
عندما يقرع أحدهم عواميد الإنارة، لا لسبب واضح
والشارع الخالي كملعب خرافي للكرة الشراب
وأنت جندي في معركة تغيير العالم
كان حوالى مئة شاب
كل واحد منهم ينزع قسماً من البنية التحتية بيديه
وكانت فتاة تنتحب على الرصيف
«سكن للغرباء» هكذا على الحائط
وكلما اقتربت من أحدهم
أعود أدراجي كأني أبحث عن شيء
أنا لم أخترع القصة
كنا هناك وكان الشارع ملعباً للكرة الشراب
فعلاً لا يمكن أن أصف لك الرنين
والآن لا أريد أن أتذكر