لم يكن إصدار كتاب مصادفةً في يوم من الأيام، وخصوصاً عندما يكون عملاً مشتركاً، أُنجز بجهد بحثي ملحوظ. لكنّ قارئ «أمين وليلى» الصادر أخيراً عن «دار الريّس»، سيحبّ تصديق فكرة أنّ مصادفةً تقف خلف نشر هذا الكتاب الذي يروي سيرة رئيس الحكومة الأسبق أمين الحافظ وزوجته الروائية ليلى عسيران؛ لأنه يأتي ليسدّ حاجة فعلية في هذه الظروف التي يعيشها لبنان. يكفي القول إنّ أمين وليلى، هما ابنا طرابلس وصيدا، حتى نعرف إلامَ يعيد هذا الكتاب الاعتبار في ظل طغيان الخطاب المذهبي على الأصوات الوطنية في هاتين المدينتين. ويكفي أن نتذكّر أن بطلي الكتاب عاشا مرحلة القضايا العربية الكبرى، وكانا لاعبين فيها، حتى ندرك أنّ ما نقرأه يتجاوز السيرة. هو كتاب يؤرّخ، من خلال بطليه، أحداثاً عربية كبرى عاشتها منطقتنا، ولا يخلو من كواليس السياسة اللبنانية ومطبخ صناعة الحكومات والوزراء فيها.
من طرابلس في عهد العثمانيين، مروراً بالقاهرة والأستانة ففلسطين، نتعرّف إلى الشيخ إسماعيل الحافظ، الذي كان صديقاً لمفتي القدس أمين الحسيني، فسمّى ابنه باسمه، والتحق به، بعدما رفض الاعتراف بضمّ طرابلس إلى لبنان مع إعلان دولة لبنان الكبير. هكذا قدّر لأمين الحافظ أن يعيش سنوات طفولته وفتوته في فلسطين، فيشهد ثورة القسّام (1936) قبل أن يقرّر والده العودة إلى لبنان عام 1938 مع اشتداد هجمات الجيش الإنكليزي والعصابات الصهيونية على الفلسطينيين. وفي طرابلس نفسها التي كانت قد رفضت ضمّها إلى لبنان، يشارك الحافظ في تظاهرة حاشدة شهدتها المدينة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، مندّدة باعتقال الرئيس عبد الحميد كرامي أحد رجالات الاستقلال. يومها، سقط صديقه برصاص الفرنسيين أمام عينيه، فاتخذ قراره برفض متابعة تعليمه في مدرسة «الفرير» التابعة للانتداب. انتقل إلى كلية التربية والتعليم حيث أنجز الدراسة الثانوية، ثم سافر إلى مصر لدراسة العلوم التجارية، ومنها إلى سويسرا للدراسات العليا.
على الضفة الثانية، كانت ليلى عسيران قد ولدت في بغداد التي هاجرت إليها عائلة توفيق عسيران هرباً من الانتداب الفرنسي. هناك، نتعرّف إلى عبد الكريم عسيران الشيعي، وسلمى غبريل البروتستانتية، ابني العائلتين الصديقتين في منطقة شرق صيدا، اللذين تزوّجا في الربع الأول من القرن العشرين وأنجبا وحيدتهما ليلى. وعندما مات والد ليلى وهي في سن الرابعة انتقلت بها أمها إلى صيدا، ثم أرسلتها إلى مدرسة داخلية في القاهرة قبل أن تعود إلى لبنان وتنتسب إلى الجامعة الأميركية.
مساران مختلفان عاشهما كلّ منهما، قبل أن يلتقيا في مقاهي بيروت الخمسينيات. على وقع غليان الشارع العربي، وثورة الضباط الأحرار، والوحدة بين مصر وسوريا، كانت النقاشات السياسية تأخذهما، كما حكاياتهما عن المدن التي يعرفانها، وأبرزها القاهرة التي عاش فيها كلّ منهما تجربة مختلفة عن الآخر. وعندما تزوجا في 8 أيار (مايو) 1958، وكان كلّ منهما يعمل في الصحافة، قطعا شهر عسلهما في تركيا وعادا لمواكبة أحداث ذلك العام والاحتجاجات التي اندلعت ضد الرئيس كميل شمعون.
حتى بعد زواجهما، سيبقى لكلّ منهما مساره الخاص. الحافظ يترشّح للنيابة على لائحة الرئيس الشهيد رشيد كرامي (الذي سيختلف معه لاحقاً)، وعسيران التي كانت قد بدأت تنشر رواياتها، ستكتب في روايتها الثانية (الحوار الأخرس ــ 1962) عن الزيف الذي تعيش فيه هذه الطبقة. وفيما سيشغل هو منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، كانت ليلى، السيدة المتزوجة والأم، تلتحق بالفدائيين في الأردن وتقيم معهم بعدما عاشت بألم شديد نكسة عام 1967، لتكتب روايتيها «عصافير الفجر» و«خط الأفعى». الكتاب الذي يمرّ على الكثير من أحداث القرن العشرين عربياً، يروي بالتفاصيل قصة تكليف أمين الحافظ تشكيل الحكومة في عهد الرئيس سليمان فرنجية، وكيف جرى اختياره بالإجماع وكيف وضعت العراقيل في وجهه، فنطّلع على كواليس صناعة الحكومات والمعايير الشخصية التي تحكم قرارات الزعماء البعيدة كلّ البعد عن المصلحة الوطنية. ويدخلنا الكتاب أيضاً في يوميات الحرب الأهلية التي عاشتها العائلة المسلمة المصرّة على البقاء في منطقة مسيحية، إلى أن يقتل العاملون في المنزل فتضطر العائلة إلى الهجرة.
لا تفاصيل كثيرة تذكر عن مرحلة ما بعد اتفاق الطائف الذي أتاح للعائلة العودة إلى بيروت وفتح صالون المنزل للأمسيات الثقافية. هنا يصبح السرد سريعاً، ويكتفي بتسجيل محطات مفصلية مثل الغيبوبة التي تدخل فيها عسيران عام 1996 بسبب أزمة قلبية تعرّضت لها، وعندما تستفيق منها تكتب عن هذه التجربة، كما تعدّ للكتابة عن تحرير الجنوب لكن صحتها لا تسعفها لإنجازها. وفيما فارقت هي الحياة في نيسان (أبريل) 2007، لحق بها زوجها في تموز (يوليو) 2009. يذكر أنّ «أمين وليلى» الذي كتب مقدّمته ولدهما رمزي الحافظ، هو حصيلة عمل مشترك، بدءاً من الناشر رياض نجيب الريّس، مروراً بالروائي محمد أبي سمرا والصحافيين فيديل سبيتي وسليمان عودة وإيمان شمص شقير.