في العقد الأخير تعلّمنا أن القرائن والشواهد المزعجة يمكنها، بفضل وسائل التواصل الرقميّة، أن تخترق الجدران الحديديّة، وتهزأ بسياسات الصمت والتعتيم. تلك الشفافيّة القسريّة ندين بها إلى الويب 2.0 الذي يفضح المسكوت عنه، ويمدّ لسانه للرؤساء والجنرالات، وبكبسة زر، يمكّن أبسط الناس من تحدّي السلطة، ومواقع القرار، وجبابرة العالم. في الماضي كان أنف كليوباترا هو الذي يغيّر وجه التاريخ.
اليوم التاريخ يتغيّر بإيقاع أسرع: تكفي تغريدة صغيرة آتية من آخر أصقاع الأرض، أو صورة مهرّبة على محمول، أو فيديو منشور على يوتيوب. كل وحشيّة الاحتلال الأميركي للعراق تجلّت لسكّان الكرة الأرضيّة من خلال مجموعة صغيرة من الصور المسرّبة عبر الإنترنت لجنود يعذّبون أسراهم العزّل ويذلّونهم في معتقل «أبو غريب». الرجل الأبيض الآتي على حصانه ليحرّر العبيد، ويحضّر الهمج، ويحمل «الديمقراطيّة» إلى الشعوب المغلوبة على أمرها… ظهر على حقيقته، سادياً وهمجيّاً وأبعد ما يكون عن حقوق الإنسان التي يدّعي حمايتها والدفاع عنها.
وها نحن نتلقّى الصفعة في لبنان، فنشعر بالمهانة والخجل والغضب. الفيديو المنشور أمس على يوتيوب يصوّر مجموعة جنود من الجيش، بحضور قائدها، تنهال بالضرب المبرّح على مدنيّ أعزل، غريب (السوري هنا أيضاً هو الضحيّة!)، مستضعف، يفترض أنّه على علاقة ما بمجموعة أحمد الأسير التي اجتثّت كالورم الخبيث من صيدا الجريحة. الفيديو فظيع، ليس فقط لما يصوّره من إهانة للكرامة البشريّة، والإخلال بالمواثيق الدوليّة والاخلاقيّات، من قبل أفراد ينتمون إلى مؤسسة عسكريّة رسالتها حماية دولة القانون والكرامة الانسانيّة، بل لأن مسرّبه اختاره بعناية لاحتوائه على كل توابل الفتنة المذهبيّة المقيتة (أسماء، لهجات…): ذلك الطاعون الذي لم نعد نملك سوى المؤسسة العسكريّة لتحمينا منه، وتحمي الوطن من شروره القاتلة. يد المصوّر دارت مرّتين بحركة بانوراميّة على حلقة الجنود، كأنّها تعرف أنّها ستفشي السر، وتنقل المعصية إلى الرأي العام. كل المناورات السياسيّة الدنيئة التي تحاول غسل الأدمغة وتجييش الناس مذهبيّاً، من خلال خدش صورة الجيش، وجدت ضالتها في هذا العمل الأرعن الذين حوّل حماة الوطن إلى مجرّد ميليشيا! كلا ليس فيديو عابراً، أو فضيحة ستطوى، بل تحدّ كبير مطروح على قيادة الجيش. اللبنانيّون في حاجة إلى أن يسمعوا أن هذه المجموعة التي أوقفت فعلاً وأحيلت على التحقيق، لأنّها أساءت إلى شهدائها ورفاقها ومؤسستها وقسمها العسكري ووطنها وشرفها، ليست سوى استثناء، مرض موضعي تمكن معالجته بالبتر. الضابط الذي سمح بهذا الخطأ، بل شجّع عليه، عليه أن يعتذر علناً من شهداء جيشه الأبرار ومن الشعب اللبناني، في سابقة قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ الجمهوريّة. عندها يستعيد المشككون الثقة بجيشهم، كي يستجيروا به من شيوخ الفتنة وعصابات الحرب الأهليّة المقبلة.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@