القاهرة | لم تعد مشاهد الثورة المصرية هي مصدر الإلهام الوحيد للمعارض الفنية. ولم تعد صور الحشود المكتظة في الميادين، وبورتريه الشهيد والنساء المكلومات هي وحدها ضيف الصالات الفنية. لقد اتسعت الرؤية (من حسن حظ الحركة الفنية)، وبدا أنّ بعض الفنانين الذين عاشوا في قلب الثورة ما يزيد على عامين، قد ضاقوا بالتعبير المباشر عنها، فلجأوا إلى الخيال والإبداع الفني، بل الفانتازيا في بعض الأحيان، ليعبروا عن الواقع المعيش. ظهر ذلك في بعض صالات العرض الخاصة هنا وهناك، وفي فاعلية «صالون الشباب» الأخيرة في دار الأوبرا، وفي معرض الفنان الشاب أحمد صبري «قصة الكركدن» المقام حالياً في قاعة «مشربية» في القاهرة.
يقدّم أحمد صبري (المنيا ـــ 1982) 39 لوحة من الأكريليك من وحي قصة غرائبية كتبها محمد عبد الكريم خلال فترة دراسة أمضاها في بيروت العام الماضي، وجمعها في كتيب يضم 21 فقرة عن الكركدن، إلى جانب رسوم نقلت أحياناً ما يدور في النصّ بأمانة، وتجاوزته في أحيان كثيرة لتفسح المجال لمزيج من الغرائبية مع الواقع الحي. وعلى الرغم من ورود شخصية الكركدن في الأسطورة الأغريقية، والعديد من الأعمال الأدبية المعاصرة التي تنشد التميز، إلا أنّه يتخذ دلالة جديدة في كتاب/ معرض «قصة الكركدن». يرمز الكركدن إلى كل ما هو مغاير ومختلف، وإلى هذا الآخر الذي تجري محاربته لمجرد أنّه خارج عن النمط السائد عبر المشاهد المختلفة لقصة الكركدن، هذا الكائن الخرافي الذي يغوص بطبيعية وسط البشر، ويعصف به الواقع اليومي و«يجسد الصراع بين الأفكار التقدمية والتخلّف والرجعية» كما يعلّق أحمد صبري. وقد كان الكركدن مصدر إلهام العديد من الشعراء مثل توفيق الصايغ، الذي نهل من التراث المسيحي حول أسطورة «اليونيكورن»، وعباس بيضون الذي عرفه في شعره: «ليس الكركدن أعمى. إنّه وحيد النظر، عينه وقرنه واحد»، ورفعت سلام الذي وحّد بينه وبين روح الشاعر تارة، وروح آلهة الشعر ومصدر الالهام طوراً في ديوانه الأحدث «هكذا تكلم الكركدن». شعر أزرق، وصندوق سداسي وميدالية مفاتيح حلزونية هي التفاصيل اللصيقة بعالم الكركدن الغرائبي، الذي يرتاد أكثر الأماكن طبيعية، مثل «استراحة» على الطريق السريع، أو «بار» لمواعدة فتاته كما نراه في المعرض. وحين يستنكر محيطوه عالمه، يجيب بزهو: «أنا الكركدن». هل هو المهدي المنتظر الذي سيأتي ليخلص العالم من الآثام ويعيد كفة الثورة من جديد؟ هل هو حقيقة أم خيال؟ مثلما يأتي في النص المكتوب، وتحديداً في مشهد مستشفى الولادة العمومي، حين اكتظت الممرات بالأطباء والعاملين والمرضى ليتأكدوا بالفعل أنّه حضر إلى الدنيا المولود الكركدني الذي لطالما صبر الناس وانتظروه كي ينقذ العالم ويخلصهم، كما حدثتهم عنه الكتب المقدسة والأساطير والأجداد ودعوات رجال الدين في الشدائد، هل ينام الآن بالفعل في «الغرفة 113؟»
لا يخلو هذا العالم العجائبي من رجال الأمن وأمناء الشرطة وعربات الاسعاف. يصوّر الكاتب الكركدن كما لو كان المشجب الذي يعلق الجميع عليه أخطاءهم وذنوبهم، حيث يخيم الهدوء على الحي وتصل سيارات الاسعاف والمركبات الضخمة العسكرية تماماً كما يحدث في الواقع «غير أن واقع اليوم عز فيه الدور الأمني الذي ترك الأحياء مرتعاً لكل متعصب ومتشدد». يحدث كل ذلك «وسط هتافات العجائز: ربنا معاكم/ الكركدن هو اللي قتل/ احمونا من الكركدن/ الله يلعن الكركدن». ورغم الأجواء الأسطورية التي نقلتها فرشاة أحمد صبري، والغوص في الغرائبي عن طريق العلاقات بين شخصيات اللوحة والألوان بحيث توحي بأنها قصة قد تحدث في أي زمان ومكان، أو بالأحرى أنّها قصة لا مكان محدداً لها، إلا أنّ سمات الوجوه وتكدسات البشر ومشهد الحافلات العامة والبنايات بالطوب الأحمر، وفوق ذلك كلهّ صورة رجل الأمن في زيه العسكري، كلها تحيلنا من جديد على الواقع المصري بعد «25 يناير». يذكرنا هذا المشهد من جديد، وهذه المواجهة بين «عجائز» الحي وقوات الأمن والنجدة ضد الكركدن، بتحالف القوى الرجعية العصية على التغيير ضد وحيد القرن و«القلب» الذي لا يملك إلا قلباً نابضاً بالثورة، وعيناً وحيدة لا ترى إلا الشهيد الذي راح. تحيلنا هذه المواجهة على الحرب الطاحنة التي تدار ضد القوى الثورية، وضد الألتراس ومجموعات الـ «بلاك بلوك»، الذين طعم الجميع خبزهم في الزمان الحسن وأداروا لهم الظهر يوم المحن.



«قصة الكركدن»: حتى 4 تموز (يوليو) ـــ «غاليري مشربية»، وسط القاهرة ـ للاستعلام: +201001704554