يعتبر الألماني ماكس فيبر (1864ــ 1920) من أهم رواد علم الاجتماع الحديث. أتى بتعريف البيروقراطية وأرسى قواعد السوسيولوجيا الفهمية. في «سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر» (منتدى المعارف ــ 2013)، تعالج الباحثة المغربية إكرام عدنني مسألتين: المنهجية الفيبرية المتمثلة في مفاهيم الفرد والفردانية ومبدأ الحياد القيمي، ونظرياته حول الدولة والدين خصوصاً حين يقارن بين الرأسمالية والبروتستانتية وبقية الأديان. يُعدّ الكتاب بحثاً نظرياً حاولت من خلاله الباحثة تبيان المناهج السوسيولوجية المعتمدة من قبل فيبر وتطبيقه لها على السلطة والدين. تناولت في القسم الأول المكوِّنات المنهجية والضوابط والآليات الأساسية التي استند اليها في منهجه كـ«الفردانية» والفهم التفسيري وأهمية المعنى والعلاقة بالقيم. اهتم فيبر «بالانسان الحديث».
كان يؤمن بالفرد وبدوره ككائن نشيط بمعزل عن مجتمعه. لذا عمل على تفسير الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من النشاطات الفردية. احتل مصطلح الفعل الاجتماعي مكانة أساسية في الفكر الفيبري؛ فالفرد يحتلّ عنده الأسبقية في الدراسة على المجتمع المكوَّن بدوره من عدد من الأفراد، لكونه كائناً واعياً وذات عاقلة بكل أفعالها ونشاطاتها وسلوكاتها.
بعد دراسة السوسيولوجيا الفيبرية، تخلص الكاتبة الى أنّ فيبر انتقد المقترب الجماعي السائد في أوروبا خلال القرن التاسع عشر كما تصوره هيغل وكارل ماركس وأوغست كونت. هؤلاء لم ينطلقوا من الفرد بل من الجماعة التي تتم معاينتها من خلال محددات مختلفة. لقد رأى فيبر أنّ الفكر الجماعي «فكر غير علمي، لأن كل حقبة تاريخية تتميز بخصائص وفردانية متميزة بحسب مقاصد الفاعلين التاريخيين ونواياهم». في القسم الثاني، سلطت الباحثة الضوء على الفهم الفيبري للدولة والسياسة، وعلى العلاقة بين الرأسمالية والدين. رأى فيبر أنّه لا يمكن تعريف الدولة إلاّ عبر «العنف الفيزيقي» (بوصفه الوسيلة الطبيعية للسلطة) الذي يحتاج الى «شرعنة»؛ أي إن الدولة وحدها تملك أدوات الإكراه المشروع، ما دفعه الى جعل السياسة مجرد «مفهوم للسلطة والسيطرة».
إن مبدأ القوة أساس النظام السياسي عند فيبر الذي ربطه بوجود الدولة التي تحتكر استخدام العنف، علماً بأن هذه المقاربة ظهرت قبله، لكن السوسيولوجي الألماني عمل على تطويرها وتحدث عن العنف الشرعي.
تقدم الكاتبة تحليلاً دقيقاً لمفاهيم الإكراه والقوة والعنف كأساس لتعريف الدولة الحديثة عند ماكس فيبر الذي تحدث عن ثلاثة معايير: القدرة، السيطرة، التنظيم. ومع تشديده على أن الدولة هي التجمع الوحيد الذي يحتكر ممارسة القوة الشرعية، نجده يقيم تمييزاً بين القوة والسيطرة، فرأى أنّ «وجود القوة هو جوهر العمل السياسي». وضع فيبر ثلاثة نماذج لشرعية السيطرة: كاريزمية وتقليدية وعقلانية، وعارض مبدأ توزيع السلطات. رأى أنّ هذا التوزيع غير ملائم ويعرقل مهمة رئيس الدولة، فطالب بالحد من سلطة البرلمان لأنه أراد إعطاء المزيد من الصلاحيات الى الحاكم الواحد، ما أدى الى اتهامه بأنه من دعاة الديكتاتورية، خصوصاً أن نظريته ودراساته حول «الشخصية الكاريزمية» «كانت بمثابة تهيّؤ نفسي للشعب الألماني الذي سيستقبل في ما بعد السلطة الأشهر في التاريخ الحديث: هتلر».
الى جانب اهتمام ماكس فيبر بسوسيولوجيا السياسة التي اقترنت عنده بالسيطرة والحاكم الكاريزمي، درس الأديان، ليس من باب التأويل الايديولوجي، بل من باب التأثيرات التي تتركها على سلوك الأفراد. انطلق فيبر من قاعدة أساسية في أطروحته «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» مفادها أنّ جزءاً من التأويلات لدى البروتستانت أنتجت بعض مولدات النظام الرأسمالي على نقيض الديانات العالمية الكبرى: الكاثوليكية والكنفوشية والطاوية والهندوسية واليهودية والإسلام. خلص الى أنّ الرأسمالية لم تتطور إلا داخل الدول التي كانت تعرف سيادة الديانة البروتستانتية، وخصوصاً الكالفينية في شكلها الطهري. طرح فيبر الإشكالية الآتية: كيف أدت بعض العقائد الدينية الى ظهور عقلية اقتصادية بالشكل الذي لاحظناه في الغرب؟ آمن أن المحدد الجوهري وراء ظهور الاقتصاد الرأسمالي هو القيم الثقافية وليس الواقع الاقتصادي، لذا قام بتحليل الروابط بين الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مستنداً الى مفهوم العلاقة التجاذبية بغية تفسير التجاذب بين التحديد الديني والتحديد الاقتصادي. هذا الزواج بين الرأسمالية والبروتستانتية عند ماكس فيبر اعتبره كثيرون محاولة لدحض المادية التاريخية الماركسية، لأنّه فسر السلوك الاقتصادي من خلال الدين. قارن فيبر بين مقومات الرأسمالية عند البروتستانت والديانات الأخرى ومن ضمنها الإسلام، وأكد أنّ المجتمعات الاسلامية كانت بعيدة عن أن يتطور داخلها النظام الرأسمالي، لأنها تفتقد العقلانية والشروط اللازمة، عدا عن أنه نظر الى الإسلام باعتباره اتجاهاً شهوانياً خالصاً خلافاً للطهرية البروتستانتية.
استفاضت الباحثة في رصد المناهج الفيبرية، ولم تأخذ بكتابه «سوسيولوجيا الدين». كان مهماً أن تجري مقارنة بينه وبين المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون صاحب الأطروحة الشهيرة «الإسلام والرأسمالية». لقد اكتفت بتسجيل الخلاصات الفيبرية حول البروتستانتية ونشأة الرأسمالية الأوروبية وعلاقتها بالديانات الأخرى، ولم تقدم أي مادة جديدة في هذا السياق، من دون نفي الجهد المعرفي والتوثيقي الذي بذلته.