فور الإعلان عن تأسيسها، هوجمت «الميادين» من قبل مؤيدي ما يُعرف بـ «الثورة السورية» و«الربيع العربي». كان مجرد القول بأنّها تسعى إلى تقديم إعلام موضوعي يمثل طعناً بالرواية الإعلامية الرائجة حول تلك الأحداث، ويضعها تلقائياً في معسكر مقابل. الحقيقة التي أدت الدور الأبرز في ذلك تمثلت في أنّ فريق مؤسسي القناة الجديدة تكوّن أساساً من عاملي «الجزيرة»، الذين وجدوا أنفسهم على خلاف مع الفضائية التي كانت قد قدّمتهم إلى جمهور المشاهدين العرب، فاكتسبت «الميادين» بذلك صفة «المشروع الانشقاقي»، الذي لا يرتاح له أنصار «الجزيرة»، ويتخوّف أعداؤها من جذوره وخلفياته. وهنا، نقطة ضعف وقوة «الميادين» معاً: إما أن تبقى في الحيز «الانشقاقي» كمجرد تمرد اعلامي على خط قناة معروفة، أو تكرّس نفسها بديلاً حقيقياً مستقلاً برؤيته. روّج أهل «الميادين» لها باعتبارها وسيلة تسعى إلى تقديم اعلام موضوعي؛ لكن خلفيات وظروف تأسيسها قادتها في بدايتها إلى المستحيل: تقمّص حالة الحياد غير الممكن عملياً، والمرفوض موضوعياً وأخلاقياً، وبالتالي، الوقوع في سقطات اعتادها جمهور الفضائيات العربية المعروفة. ولا يُنسى هنا، موجز أخبارها الذي نقل خبرين متتابعين: الأول حول مجزرة الحولة السورية (مرفقاً باتهامات المعارضة السورية)، والثاني حول استشهاد فلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال. بينما أُرفق النبأ الأول بمشاهد نقلتها حركة كاميرا متريثة تصوّر جثثاً مهملة لا تثير اهتمام أحد، جاء النبأ الثاني مرفقاً بمشهد تقتحمه سيارة الإسعاف في دخول درامي سيطر على كامل المشهد ومضمون الخبر. الفكرة المباشرة التي أنتجها تتابع المشهدين أنّ القوات السورية تقتل بلا حساب، بينما الكيان الغاصب لا يتوانى عن إسعاف ضحاياه رغم محدودية عددهم (لا يظهر حتى أنّ سيارة الإسعاف فلسطينية).
تشديد «الميادين» على الموضوعية، اعتراه عيب ظاهر: من بديهيات الموضوعية أن تكون واضحاً بهويتك قبل أن تتكلم. والكشف عن الهوية لا يتحقق بالإعلان عن موقفك، لكن بالكشف عن مصادر تمويلك. وهذه المسألة لم يتجاوزها أهل «الميادين»، الذين اقتصر كشفهم في هذا المضمار على الحديث عن مستثمرين بقوا مجهولي الهوية والجنسية. أما التلميح بأنّ أحد هؤلاء شخصية خليجية، فقد قاد إلى نشوء مخاوف من أن تكون «الميادين» ورقة احتياطية بيد أصحاب «الجزيرة» أو أي من شقيقاتها، وممراً خلفياً لمنتجهم التوجيهي. خطاب «الميادين» الذي يشدد على مفردة المقاومة، اتسم ببراغماتية لا تنسجم مع مبدئية هذا الخيار. مالت القناة إلى البحث عن المفاصل التي هي محل اجماع معقول (حرب تموز مثلاً)، وهربت من المناطق الخلافية. وسيرة تحوّل خطابها المتعلق بالشأن السوري (على سبيل المثال) يكشف ذلك، إذ وقفت متأخراً ضد التدخل الأجنبي في سوريا، ثم بدأت بتظهير مواقف صريحة مع تحول الموقف الميداني لمصلحة الحكومية الشرعية في دمشق. في السياق نفسه، كان يُتوقع أن تحتل القضية الفلسطينية مكانة بارزة في خطاب القناة؛ وهي بالفعل قامت بجهد لإعادة القضية من جانبها النضالي إلى الشاشة. وربما يجدر التنويه إلى أنّها كانت أكثر توفيقاً في الاختيار الجديد لكادرها في فلسطين المحتلة، لكن الغالب على القناة هو ذلك الجانب التوظيفي للقضية الفلسطينية، الذي ينطلق من قاعدة شائعة ترى أنّ التبهيرات الفلسطينية تضفي بالضرورة نكهة المقاومة على شاشتها.
لا ننسى هنا أنّ ثمة صراعاً على جمهور الشاشة تكشف عنه جنسية الوجوه الإعلامية التي استقطبتها الفضائيات العربية التي مالت أخيراً إلى وجوه خليجية، ما يكشف حقيقة أنّ الجمهور الخليجي لم يعد رهناً بقنوات الترفيه والرياضة، وأنّ التنافس عليه دخل حيز الواقع بالنسبة إلى «الإخباريات». وهنا، يمكن أن تنتبه «الميادين» إلى محدودية تنوّع جنسيات وجوهها على الشاشة، وأنّها تواجه الإعلام المقابل على أرضها هي، وخارج أرضه هو (وبالذات الخليجية) رغم أنّها سجلت سابقة بتخصيص إطلالات غير معهودة على بعض البؤر المتوترة في الخليج.
نجحت «الميادين» في استقطاب المشاهد الذي أثارت امتعاضه التغطيات المنحازة للأحداث العربية. في نجاحها هذا، لم تكن تفيد من وعود إدارتها بالاستقلالية والموضوعية والمهنية، بل من الحاجة الملحة إلى قناة لا تاريخ لها في التورط بتلك الأحداث. قناة تقدّم وجبة اعلامية بالمستوى العابر للأقطار العربية، الذي اعتاده المشاهد العربي أخيراً، أي إنّها عملياً حققت الانتشار عبر التمدد على حساب قصور القنوات الأخرى وتراجع مهنيتها (وبالذات «الجزيرة»). تبقى أمام «الميادين» مهمات تأسيسية رغم عام من البث والحضور في الفضاء الإعلامي، فالعيش في جلباب «الجزيرة» يمثل إغراءً سهلاً ومريحاً، لا يطمئن إليه جمهور «الميادين»، ولا يجدر بإدارتها أن تتهاون إزاءه!

* مقالات أخرى على موقعنا