يفتتح إدواردو غاليانو (1940) كتابه «أبناء الأيام» (دار دال ــ دمشق، ترجمة صالح علماني)، بيوم سقوط غرناطة (2 كانون الثاني/1492) وهو الحدّ الفاصل بين إسبانيا المسلمة، وبداية انتصار محاكم التفتيش المقدّسة. يختار الكاتب الأوروغواياني أحداثاً مفصلية في توثيق الذاكرة الكونية، موزعاً إياها على عدد أيام السنة. يهدي اليوم الأول في السنة إلى شعب المايا الذي يؤمن بأن الزمن فضاء، فيما الأيام هي التي تصنع الأشخاص الذين بدورهم يولّدون الحكايات، وتالياً، فنحن «أبناء الأيام». حكايات وشذرات مكثّفة ومفارِقة في التقاط مشهديات لأشخاص ووقائع غيّروا مصير العالم. هكذا يرصد غاليانو بعدسة مقرّبة وجوهاً وأحداثاً واعترافات عن الحب، والموسيقى، والموت، والكتب، والمجازر، والديكتاتوريات... عالم يتأرجح من عصر الكهوف إلى اليوم، كما لو أنه شاشة عرض في قاعة مظلمة تبث أرشيفاً سريّاً عن محاولات «سرقة الذاكرة». ما يفعله صاحب «أفواه الزمن» هو تشريح واقع مثقل بالظلمات والعار، وتعرية الغزاة والصيارفة والأباطرة والقوى المهيمنة في العالم.

لكنه يسعى من جهةٍ أخرى إلى ترميم الذاكرة الجمعية في إعادة الاعتبار إلى صنّاع الجمال من خلال ذكره للمكتبة الجوّالة العملاقة مثلاً، التي كانت فكرة وزير بلاد فارس عبد القاسم إسماعيل. تقع هذه المتواليات السردية على تخوم الحكاية والشاعريّة والحكمة، ليحيلنا بذلك على السردية نفسها التي استخدمها في كتابه «مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالم» (2009). في الواقع يصعب أن نتوقف عند يوم، ونهمل آخر، فهذا المؤرّخ الجمالي، لا يدع لنا فرصة للانحياز خلال رحلته في اقتفاء السلالات المتعددة، تلك التي صنعت الذاكرة، أو التي حاولت تدميرها، من حذاء روزا لوكسمبورغ الذي وقع في الوحل بعد اغتيالها (1919)، إلى موسيقى موزار، وأنطون تشيخوف الذي «كتب كمن لا يقول شيئاً. وقد قال كل شيء»، مروراً بكارل ماركس «رأس المال لن يكفي ثمن التبغ الذي دخنته وأنا أكتبه»، و«ذهب مع الريح»(1940) الفيلم الذي «كان زفرة حنين طويلة على أزمنة العبودية، الطيّبة الضائعة»، وولادة فرقة الـ«بيتلز» (1962)، ونكبات إحراق الكتب. التاريخ هنا ليس خطيّاً، إنما يتأرجح، مثلما يذكر غاليانو «التاريخ لعبة نرد». لا يتردد صاحب «كتاب المعانقات» في إماطة اللثام عن المحرّمات والتابوهات وأسرار الطغيان. يصرخ أحد الأصوليين الأفغان في المحكمة الدولية في استوكهولم (1981)، متهماً الاتحاد السوفياتي بتدمير القيم الأفغانية «الشيوعيون ألحقوا العار ببناتنا! لقد علموهن القراءة والكتابة»، ويختزل «المعجزة السعودية» بقوله: «في عام 1938 دوّى الخبر العظيم: «ستاندرد أويل كومباني» اكتشفت بحراً من النفط تحت الرمال اللامتناهية في العربية السعودية. تلك البلاد، حالياً، هي مُصنّع أشهر الإرهابيين، والأكثر خرقاً لحقوق الإنسان، ولكن القوى العظمى الغربية، تقيم أفضل العلاقات مع تلك المملكة ذات الخمسة آلاف أمير. أيكون السبب هو أنها من تبيع أكبر كميات بترول، ومن تشتري أكبر كميات أسلحة؟». إذاً لا تخلو الشذرات من التهكّم، ولا تتورّع عن اقتحام أكثر الأسئلة إلحاحاً بلا مواربة، في عالم يتحوّل تدريجاً إلى «ثكنة عسكرية هائلة، ومستشفى للمجانين». قبل أن يسدل الستارة على أهوال الكوكب، يتوقف عند شعلة محمد البوعزيزي «النار الصغيرة التي لا تتجاوز طول قامة بائع جوّال، صارت خلال أيامٍ قليلة بحجم العالم العربي بأسره، المشتعل بأناس ملّوا من كونهم لا شيء».