انطلق عاصم المصري في كتاب "الأبجدية ودلالاتها" في بحثه عن معاني مسمّيات حروف الأبجدية العربية، بالقول: "ليس اعتباطاً أنّ يكون لكلّ حرف من حروف أبجديتنا مُسمّى يختص به، يتميّز به دلالَةً ومعنىً عن غيره، إلّا أنّ جهلنا بما توافق عليه السّلف، وما تضمّنه قصد المعنى، لا يعفينا اليوم من استنطاق المسمّى ليأخذ ببصيرتنا من خلال جدليّته إلى خاصيّته في تشكيل الكَلام." قامت منهجيّة البحث عنده على استنطاق مَعاني مسمّيات الحروف من خلال جدليّة الأضداد، معتبراً أنّ الحروف تجري في مسارات تقوم عليها الألفاظ، ووجهة الحرف هي في حراك زمكانيّ بحكم جدليّة توازن التناقض، وأنّ لكل حرف صفات مختلفة عن غيره تظهر في حركته وبناء معناه، وهو ما يحدّد وجهة حركة اللّفظة وتأليف الكَلام. اعتمد في ذلك على مقابلة أسماء الحروف ببعضها لمعرفة اتجاه حركة الحرف واستنطاق سبب اتخاذه اسماً خاصاً به، وتعيين دلالة المسمّى، ومن ثمّ محاولة الوصول إلى المبرّر الجدليّ والمنطقيّ لتتابع نسق ترتيبها.

مُنطلَق البحث عنده مُنفَلِتٌ من أسْرِ الشّكل والحدود الأكاديميّة. ينهج قراءة معنى الحرف من خلال تناقض تركيب مسمّى حروفه، وهو مُتمرِّد يرفض القيد، ويضمر فكّ أسر اللُّغة من عِقال الزّمن، ويطالب بمنظور ثوريّ يسمح بفتح المجال للفكر ومفاعلة أدوات المعرفة المعاصرة.
يهدف البحث إلى إدراك المعنى الحركيّ لكل مسمّى، والمعنى الجدليّ للوصول إلى قصد المعنى. معتبراً أنّ مسمّى الحرف يضمر نقيضه، ولا يكشف عن مضمون قصده، بالدِّقة المطلوبة، سوى نفسه. يسعى كذلك لفهم ما يعنيه اسم الحرف، وسبب استخدام اللّفظة لحروف وفق متابعة ونسق مُحدَّديْن، وكشف سرّ التقائها لتشكيل منطق الكَلِمة والتكليم. ومن خلال التّركيب الحَرْفـيِّ للألفاظ، يحاول تحديد قيمةٍ مُعيّنةٍ للفظٍ مُعيّن، كما لو أنّه يقوم بتركيب كيماويّ لعددٍ من العناصر الأوّليّة، أو قِيَمٍ لمعادلات رياضية، أو بكشف شيفرة الجينات الوراثيَّة.
اعتبر أنّ إدراك معاني مُسمّيات حروف الأبجديّة، ومواكبة حركة التغيير في استخدام الكَلِمة ودلالتها، استوجب النظر إليها من خلال فلسفة جدليّة الأضداد، لأنّها نهج مسار التكوين كلّه، بما فيه تكوين النّفس واللّغة والشخصيّة فينا وفـي المجتمع والقيَم أيضاً. تابع معايرة دلالة الكَلِمَة من خلال معاني حروفها، في محاولة لمطابقة المعنى الحركيّ مع المعنى الوارد فـي المعاجم، وفـي التّنزيل، وفـي «ديوان العرب». مبيّناً سبب استخدام لفظة مُعيّنة، وليس كيفيّة استخدامها فقط. معتبراً معرفة السّبب هو ما يصوّب وعيَ ومنطق الكلام وأساس المخاطبة والتّواصل، وبالتّالي صحّة التفكير. قام البحث بمراجعة بعض ما تركه السّلف، وملامسة فواصل ذات صِلة، كالحرف، واللّغة، والكلام، والنُّطق، وغيرها من المفاهيم الّتي تساعد على بناء المنهج المطلوب.
اعتمد البحث الاستدلال منهجاً لاستقصاء دلالة حركة الحرف، كما لو أنّ له قيمة تفاعليّة فـي اقترانه بالحروف الأخرى. والنّظر إليه إنْ كان هو الفاعل المحوري فـي التّسلسل، أو تابع مُكمّل لدور ثانويّ. مبتدأ التقصّي والاستدلال أوّلاً من مُسمّى الحرف ثمّ باقتراناته، الّتي يبدأ بها والّتي يتبعها.

إنّ الاحتكام إلى جدليّة التناقض التي نهجها هذا البحث، فرض قراءة جدل الحروف من خلال جدل الكون. ومطابقة تكوّن الحروف من كمون طاقة الألف التي فَجّرت إنبثاق الباء، بتكَوُّن العناصر من توازن المادّة بمضاداتها بعد الإنفجار العظيم.
لمسألة ترتيب الحروف عنده أهمّيّة كبيرة لا تقل عن أهمّيّة أسماء الحروف. وأنّ ترتيب "أبجد- هوّز- حطّي...إلخ"، لم يتم اعتباطيّاً. فما ابتداء الأبجديّة العربيّة بالألف، وانتهاءً بالغين، إلّا إخضاعاً لنظام كوني يستوعب الحركات المحتملة في الوجود. ليؤكّد أنّ التّرتيب هو بدلالة نشوء الكون. وأنّ مُسمّيات الحروف مُطابقة تماماً لآليّة النّشأة. مذكّرنا بدلالة ورود حرف الغين في ءَاخر حروف الأبجديّة، كيف أنّه يغيّب ويعيد حركة الأنبثاق إلى كمونها، كما هي حركة الثّقوب السّوداء.
توصّل البحث إلى أنّ الحرف هو وعاء وهيئة الصّوت؛ تأخذ به الكَلِمة في ميادين الأفكار متنقّلة بأصوات نُطقها، كي تعيد باستمرار صياغة الزّمن في مساحة المعرفة، وتضعها في تيّارها الحركيّ. وأنّ لمسارات حِراكَها الزَّمكانيّ وجّهة محدّدة، وأنّ ترتيب الأبجديّة ليس بعشوائيّ، بل وفق نسقٍ إيجابيِّ السّلوك تتابعاً، وسلبيّه إذا ما تعاكس.
استخدم اصطلاحاً لفظة معارج(#) ، ليدل على الحركة الّتي يتذبذب خلالها الصّوتُ صُعوداً ونُزولاً، في موجة ونطاق التّواصل بين قوس الظّاهر وقوس الباطن، فتوصّل إلى أنّ حركة الواو بالضّمّة تمثّل تعارض الجاذبيّة للتثبّت المكاني، وفيها مَنطق الظّاهر. بينما في حركة الياء بالكسرة كمدلول زمنيّ، مسترجِعة موجةَ الصّوت إلى حيث بدأت تفرض الملاحقة، تساير الجاذبيّة وتمتد معها، يبطن الاحتمالات المجهولة، مِمّا يعني منطق الباطن. وعندما تمادت حركة الفتحة بين الزّمان وبين المكان، دون مقاومة للجاذبيّة، تجمّد اتجاهها بين الظّاهر والباطن، ليتشكّل ألف المد، فهو مستتر بصيغ الهمزة والواو والياء. ويمثّل التعامد بين الزّمكان، وإذ لم تأخذ الموجة المدلول النّهائي، ففيها احتمالي الظّاهر والباطن، وما يحدّد الإتجاه النّهائي لها هو العلاقة الجدليّة مع الحرف الذي يبدأ التسلسل، في مسعى للولوج به إلى بابي الزّمكان.
استنتج الباحث أنّ اللّغة ليست وعاءً فارغاً يُملأُ خلال الاستعمال وأنّ الكَلِمة في اللّغة حركةٌ متسلسلةٌ. هي عين الحركة الّتي تتغيّر بها الأشياء بصورةٍ دائمةٍ ومستمرّة. بمعنى أنّ الثّبات حركة، والتّغيّر حركة. لا فرق بينهما من ناحية التّحرّك. ذلك، لأنّ بقاء الشّيء دون تغيّرٍ يستلزم وجود قوّة مانعة عن التّغيّر. وهذه القوّة هي حركة. ويصح عنده القول: إنه لا مرادفات في اللّغة العربيّة، وإنّ للكَلِمَة منهجيّة حركيّة تميّزها عن غيرها، فلا تفسّر بغيرها، ولكلّ تسلسل توجّه مغاير في نشأته وفي زمكانيّته.
خلص البحث إلى أنّ الكَلْمة بتسكين اللّام متصلة بالكلوم والجوارح، وهي منسوبة للمتلقّي، ومن هذا تداخل الالتباس مع (القول) المنسوب كذلك للجوارح. بينما مفردة (كَلِمَة)، فهي منسوبة للفاعل وليس للمتلقّي. كما قيل: "في البدء كان الكَلِمَة". وقد اعتبر أنّ العلاقة جدليّة بين الكَلِمة والسّياق. والاختلاف هو انتقائي من مرتقب المتكلّم، بينما في نظر المتلقّي دلالي. يحّدد ذلك مدى ترابط المعنى مع نسق الاقتران، في توصيل النّطاق ألتّخاطبيّ. وللمزيد أنهى نظريته في وضع دليل "الميزان الاشتقاقيّ".
في رأي الباحث أنّ المُفسَّر لا يكون إلّا نكرة، وإلّا لما تطلّب تفسيراً. لذلك يحاكم العقل النَفْس قبل التّفوّه، متسائلاً عن مبرّر النّطق وسبب انتقاء اللّفظة. كلُّ حرف هو في معيار العقل بحسبان، فما من حرف أو نطق إلّا وهو باطن لظاهر، وإجابة أو توضيح لسؤال، أو نفي ورفض لقرار. وهذا يعني، أنّ حركة الكلمات والألفاظ والأحرف هي كموجات تردّدها بين الظاهر والباطن حول محور أفقي للموجة الصّوتية، هو حركة تفاعل مع الكون والحياة والاستجابة أو الرّفض لجدليّة هذه الحركة، وانعكاس للموقف من كلّ مكوّن وقت حدوثه، أو الاستشعار بملامسته ذهناً أو فعلاً.
احتوى المعنى المحمول في الكَلِمة نقيضه في تبرير استنطاق الحدث أو الأحاسيس وإثارتها. لذلك تُحدّد الكَلِمة قصد المعنى، والسّياق يميّز سير حركتها. هكذا تحوّلت الكَلِمة محمولاً مُعلّباً ووسيطاً مَعرفيّاً، وإذ مدّتها الحروف بما تحمله من أختام وطلاسم، حالت دون التّفريق بين الكَلِمة وحروفها، أو التمييز بين المعنى المعرفي المتجاوز تلك الحروف. هكذا اختبأ المعنى في ذاكرة الكَلِمة، لا بل طبعها ودمغها بختمه في صورة مستنسخة دون تفكيكها. لذا نصح قبل أنْ تحاصرنا المفردة بنطاقها، أن نفكّك حركة الأصوات الأساسية لأحرف المفردة، ونسترجع دلالتها بأن نتعرّف على جذرها وسبب استخدامها، لا أنْ نحفظها دون أنْ نُمعن في مُبرّر تأليف حروفها. وهو بذلك يرى أنّ المفردة ليست دالّاً يشير إلى مدلولٍ خارجها. بل هي دالٌّ ومدلولٌ في عين الوقت. ولا يجوز التفريق بين دلالة المفردة الذّاتيّة وبين الشّيء الّذي تُطلَقُ عليه.
في رأيه أنّ جدليّة الحرف تتحرّك بنبض الطبيعة وإيقاع توازن التناقض، ومن حيث المعنى والمبنى هي الإنسان في غيره والآخرين فيه. ممّا سبّب خللاً معرفيّاً لصعوبة استرداد الصّورة الأولى ومواءمتها مع الحاضر الماثل، والمحاصر باللُّغة منذ ولادته. يفكّر ويتخيّل ويشعر ويعبّر عن انفعالاته مع النّاس والمحيط بواسطتها. هكذا تتشكّل الذّاكرة التخاطبيّة وأداة التفكير والجدل المعرفي. لذلك أعاد الباحث الخلل في طريقة نُطق الكَلِمَة وحروفها إلى عجز في خلايا ءَالة النّطق وليس في اللّغة ذاتها.
في تميزيه بين اللّسان واللّغة، خلص إلى أنّ اللّسان منسوب إلى القدرة على تفعيل جدل الحروف بحركاتها، لذلك يوصف بالمُبين، بينما اللّغة مخزن ومستودع الألفاظ المنقولة بالكلمات عبر الحراك التاريخيّ للمجتمع، فتنسب إلى القوم كمحصّلة.
ما لم تقله أصوات الحروف مُفردّة، قاله التردّد والصّدى الصّوتي ودلّ عنده على ميزان التصريف والتركيب، وءَالية الإعراب والوضوح،وبيّن ما رسم وما شكّل من رموز عبر حراك الزّمن. وأفصحت حروف العلّة، كونُها حروفاً حركيّةً، عن الاتجاه الحركي في الزّمان والمكان. معتبراً أنّها من يحدّد الصّيغ المُختلفة في جميع الاشتقاقات، ممّا أكسب المفردة العربيّة قدراً أكبر من المرونة لمقابلة التغيّرات الهائلة، ودخول الأحرف الخاصّة بالافتعال، والطلب والتّراجع، والتّقليل والتّكثير، والتشديد.
استخلص الباحث أنّ حركة الحرف في أيّ تسلسل، هي كيفٌ للحركة السّابقة وكمٌ للحركة الّتي تلحق بها. وبذلك أمكن العبور من العام في صياغة الكَلِمة إلى بيان الحراك الخاص الذي تقوله وتعرب عنه حركات حروفها.
البحث لم يتوقّف هنا، بل عمد إلى تطبيق هذه النظرية من خلال منهج الاستدلال على كافة حروف الأبجدية، مخصصا فصلاً لكل حرف، في مقاربة مع الوصف المعجمي لكل استخدام وما ورد في ديوان العرب الشعري، وفي التّنزيل القُرءاني. واعداً بمتابعته في كتاب ثاني بعنوان "جدل الثُّنائي، وكتاب ثالث بعنوان "قراءة في كلام العرب".