في روايته «يوميات صعلوك/ جان دمو في الجبهة» (دار نون/ الإمارات)، يكتب حسين علي يونس نوعاً من التحية لشاعر تحوّل إلى أيقونة في الشعر العراقي المعاصر. لم يكتب جان دمو (1949 – 2003) الكثير، إلا أن اسمه ظل متداولاً كإحدى الالتماعات الفريدة سواء في كتاباته المقلّة، أو في انطباعاته الشفوية القاسية والمدهشة حول الكتابة، أو في سلوكه الحياتي كصعلوك وساخر كبير. صاحب الديوان الصغير واليتيم «أسمال» لا يحضر كبطل للرواية. الرواية نفسها ليست رواية بالمعنى التقليدي للرواية. ينبهنا المؤلف على الغلاف أن «المفارقة تحل محل السرد، والشخصيات المحورية تتسم بغرابة الأطوار»، ولكن هذا لا يعني أيضاً أنها رواية تجريبية مثلاً. ما نقرأه هو فصول وشذرات غير متسلسلة وغير محكومة بأداء سردي متصاعد.
القول إنها رواية أو قصيدة نثر طويلة لا يغير من جوهر هذه الكتابة المنجزة بحساسية شعرية وشخصية لافتة. هناك خيط من الأسى يصل الفصول والمقاطع بعضها ببعض، ويحوّل الكتابة إلى ممارسة تستجيب لمتطلبات الخيال الشخصي، وتستثمر الزمن العراقي بوقائعه الملموسة وخلفيته التاريخية والأسطورية. يحضر جلجامش في فصول يهجو فيها المؤلف السلطة السياسية. وتحضر تفاصيل من حياة دمو، ولكنها مروية بدون مبالغة أو تزويق هذه المرة.
كل ذلك مبذول في سبيل كتاب يمزج السرد العادي (المكتوم على أي حال) بالنثر المركّز (غير البعيد عن شعريات النثر). داخل هذا المزيج، يمتدح صاحب «خزائن الليل» الظلال الفريدة لجان دمو الذي يحظى بلقب «المعلّم». يخبرنا أن دمو نفسه استُدعي إلى الخدمة العسكرية رغم تقدمه في السن، وأنه حلم بكتابة رواية بعنوان «حذاء في الجبهة». الجبهة ذاتها التي خدم فيها المؤلف في واحدة من حروب صدام العبثية. مصائر جيل سابق تحتكّ بمصائر جيل أحدث في سيرة عراقية أوسع وأكثر تراجيدية.
الرواية هي صعلكة سردية موازية لصعلكة المعلم وصعلكة المؤلف الذي ظلت مخطوطة الكتاب أكثر من 15 عاماً في أدراجه. معلومة توحي بأن الكتاب واجه صعوبات في النشر، مثلما (قد) يواجه صعوبات في التلقي أيضاً. الكتابة هنا محكومة بأن تخضع لمونتاج وتقطيع متواصل. المونتاج يعزز المذاق الشَّذَري للنص، بينما النص ذاته منجز بوسائط متعددة. الطريف أن المؤلف يخبرنا بانتقالاته، ولكن ذلك لا يخفف من غرابة الرواية، ويُبقيها في حيّز الالتباس النصي. هكذا، تصبح الكتابة دعوة للتجوال في كواليسها وأسرارها. الرواية تُكتب أثناء إخبارنا بسعي صاحبها إلى كتابتها. «أشياء كثيرة تراودني أفكر في كتابتها، ولكني أعجز عن أن أدحرجها لتستقر في سياقها الصحيح»، يقول المؤلف في مستهل الكتاب الذي نقرأ فيها فصولاً غير مترابطة إلا بنبرة السرد وحساسية السارد الذي يُدهشنا بعناوينها الفرعية: «الحكاية القذرة لفار الأخشاب»، «فن تعذيب الحثالة»، «أبو نؤاس والحكاية المريرة»، «فصل الأسماء المحبوبة والمكروهة». بين هذه الفصول، يمرِّر المؤلف مسرحية قصيرة عن عزرائيل، ويضع مقالتين قبل نهاية الرواية، زاعماً أنها من «مخلَّفات المعلم»، تاركاً للقارئ فرصة التلذذ بتأملات مدهشة عن «الفلسفة والشعر» في ظلال ادغار آلان بو وبروتون وبودلير، وتأملات أخرى عن «الشاعر والتجمّعات» التي يناقش فيها مقولة رامبو: «كل الكتب جيدة حين تُوضع على الرفوف وتُخفي جَرَب الحيطان القديمة»، ثم يضع مسرحية أخرى قبل الخاتمة التي تُعيد القارئ (والمؤلف أيضاً) إلى الزمن الواقعي الذي يظل يتحرك في أحشاء النص. لعل قوة الرواية موجودة في هذه الطبقات الثرية والمتعددة التي تظل تتراءى للقارئ على سطح السرد. على طريقة نيتشه وسيوران، تتوالى الشذرات المنفصلة - المتصلة، بينما يستعيد المؤلف أجزاء من حياته وذكرياته وقراءاته. الأسى الذاتي هو ترجمة لأسى عراقي مقيم في التاريخ والشعر والحياة اليومية الفائحة برائحة الحروب والموت والطائفية التي ستزدهر لاحقاً بعد الاحتلال الأميركي. الرواية المزيّنة بصور متفرقة لـ «المتشرد الاستثنائي» الذي قُيّض له أن يشهد ذلك الاحتلال قبل رحيله في أستراليا، تؤمن له حضوراً آخر في نبرة الكتاب. كأن حسين علي يونس يكتب شهادة مشتركة تجمعه بالمعلم، وتترجم جانباً من تجربته كشاعر عانى من عدم انتظام واضح في نشر تجربته الشعرية، بينما يعدنا بجزء ثانٍ من الرواية.