تُريحنا هدى بعلبكي (1968) من ضجة الاستعارات والمفاهيم المتسارعة والمتلاطمة للفنون المعاصرة. الرسامة اللبنانية التي سبق لها أن أنجزت موضوعات تعبيرية عديدة، وعرضت تجريدات لافتة في معرضها السابق، تقترح على المتلقي إجازة قصيرة في مشهديات الطبيعة.
كأنها تعيد الاعتبار لفكرة «المنظر الطبيعي»، لكن بحساسية تجريبية تفسح المجال لتظهير طموحات شخصية، إلى جانب تقديم الطبيعة ذاتها من زاوية لونية وسردية مختلفة. هكذا، وعلى امتداد 52 لوحة بقياسات مختلفة، تُمنح الطبيعة دور البطولة المطلقة في المعرض الذي تحتضنه «غاليري ألوان» تحت عنوان «الجنة في مكان آخر».
الجنة هنا خالية من البشر، وخالية بالتالي من أي تشخيصات مفاجئة في اللوحة. ما نراه هو خلاءات غير مأهولة من الأمكنة والفصول والألوان التي تتقاسمها أشجارٌ معمّرة ونباتات وحشية مع تلال ومنحدرات لم تتعرض لتدخّلات الحياة اليومية للناس.
الطبيعة تحتفل بعذريتها الحرجية والغاباتية، حيث تتحالف عوامل الجغرافيا والطقس مع عمل الخالق في تدبير حياة بعيدة عن صخب البشر وعن تعدياتهم أيضاً. لسنا في معرضٍ مناصر للبيئة طبعاً، ولكن هناك صعوبة في تجاهل السكينة المنبعثة من اللوحات التي تحتفي بالطبيعة، وتتجنب ـــ في الوقت نفسه ـــ الوقوع في سذاجة الفكرة ورومنسيتها.
القصد أنّ الطبيعة غير المدجَّنة في اللوحات ينبغي أن تقترح انطباعاتٍ غير مدجّنة أيضاً. السكينة وترجماتها هما جزء أساسي من مشروع الرسامة واستغراقها في العزف المنفرد للطبيعة التي تتحول إلى موضوع وأسلوب في وقت واحد.
هكذا، يتناسى زائر المعرض التقنيات التي رُسمت بها الأشجار المتداخلة الفروع والأغصان، أو النباتات والأعشاب التي تتسلق جذوعها وتنتشر في جوارها، والأهم أنّه لا يكترث كثيراً بالفروق الطفيفة بين إنجاز هذه التفاصيل، وبين انتباه الرسامة إلى تضاريس الأرض والتربة والمساحات القليلة التي تظهر فيها السماء
أيضاً.
ترسم بعلبكي ما لم ينكّل به البشر ولم تمتد إليه تلوثات الحضارة الحديثة.
الطبيعة المنسّقة والمروّضة والخاضعة لتعديلات مسبقة مستبعدة أيضاً. لا نشاهد هنا حقلاً قريباً أو مناظر ريفية منبسطة أو تلالاً عادية قريبة من مناطق السكن التقليدية. ولذلك تكثر عناوين مثل «تلال صامتة»، و«باتجاه الضوء»، و«الهاوية» و«صلاة» و«سكينة».
كأنّ الرسامة تسعى إلى القبض على العزلة والخشوع والطمأنينة، والفرار من غابات من نوع آخر مكتظة بالباطون والسيارات والازدحام البشري. في بعض الأعمال ذات القياسات الصغيرة، تُحصر الطبيعة في مساحة ضيقة، وتحظى بنوع من القرب والحميمية، ولكن التقنيات لا تختلف كثيراً. غياب البشر والاستغراق في عمل الطبيعة، يحوّلان اللوحات المعروضة إلى مشروع تجريدي خاص، حيث تصبح لعبة الضوء والظل هي المعادلة الخفية للمعجم اللوني وإضافاته المختلفة في تأويل المشهد الأصلي أو المتخيل، ونقله بارتجالات متواصلة إلى مساحة اللوحة. التقنية تستثمر وسائط عديدة لتثبيت التفاصيل المينيمالية للمشهد، وتعتني بأقل نأمة أو إيحاء ينبعث من
عناصره.
لا يحدث ذلك بقصد إنجاز صورة طبق الأصل للواقع بقدر ما تحاول الرسامة مجاراة هذا الأصل في التأليف واللون والأسلوب. وهو ما نراه في بعض اللوحات التي يتضاعف فيها جهد الرسامة في إظهار ما يمكن أن نسميه عمق المشهد أو النقطة التي تبدأ من تأليف المشهد الذي يصلنا كأنما على دفعات أو طبقات متتالية، حيث تتجاور قمم الأشجار مع اقتراب المنحدرات التي تحملها إلى مقدمة اللوحة. قوة اللوحات موجودة في هذا المزيج، الخفي والظاهر، بين التقنية ومجاراة الأصل، وتحويل ذلك إلى تجريد خاص.

«الجنة في مكان آخر»: حتى 8 أيار (مايو) ــ «غاليري ألوان» (الصيفي ــ بيروت) ــ للاستعلام: 01/975250




مزاج الهواة

تشتغل هدى بعلبكي على فكرة المشروع. هناك فكرة أو روح واحدة تسري في معرضها الحالي، وهو ما حدث بدرجات متقاربة في معارضها الفردية الثلاثة السابقة. الطبيعة هي الطبقة الراهنة من هذه الأفكار التي جرى تأويلها بانطباعيات تشخيصية وتعبيرية وتجريدية في معارضها الثلاثة السابقة، وكان آخرها مديحاً للأبواب والقناطر وأطلال الأمكنة. الرسامة التي تخرجت في «معهد الفنون الجميلة» سنة 1994، لا تزال تحتفظ بمزاج الهواة إلى جوار ممارساتها الاحترافية الواضحة. لعلّ هذا ما يميزها عن أغلب أقرانها وأبناء جيلها الذين التحقوا بنسخٍ شديدة المعاصرة للفن، وهو ما يجعلها قريبة من مزاج الرسم الصافي، ويجعل تجربتها تتقدم على مهل، بعيداً عن قفزات السوق وشروط الغاليريات الكبيرة.