شاعر من الجنوب
«جنّات عا مدّ النظر ما بينشبع منها نظر». كلمات كتبها عبد الجليل وهبي (1921 ــ 2005) وغناها وديع الصافي. لعله شعر بأنّ أيامه في الحياة باتت معدودة، فترك الإمارات، حيث أمضى ربع قرن، وعاد إلى لبنان مقدمّاً 5 آلاف قصيدة وأغنية. صاحب كلمات أغنيات وديع الصافي «عاللومة»، و«بترحلك مشوار»، و«بالساحة تلاقينا»، و«حبيبي ونور عيني»، وأغنية صباح «دخل عيونك حاكينا»، رحل قبل ثماني سنوات، ودوماً تمرّ ذكراه بصمت. لولا العائلة وتحديداً ابنته فاطمة، لكان اسم وهبي انضم إلى قافلة المنسيّين.

أخذت الابنة على عاتقها متابعة صحّة والدها في الأشهر الأخيرة من حياته، ثم اهتمت بنشر كتب ودواوين له بعد رحيله. ولد الشاعر في حلب، لكن نسب عائلته يعود إلى بلدة حاروف الجنوبيّة (قضاء النبطية). قبل بلوغه الـ 16، سطع نجمه وتحدى كبار شعراء الزجل، وأسس مع أسعد السبعلي وأسعد سابا «عصبة الشعر»، ليقدموا معاً حفلات زجليّة ترددت أصداؤها في مختلف المناطق اللبنانية. التحق عام 1953 بالإذاعة اللبنانية، وشكل أحد أقطابها مع ميشال خياط وحليم الرومي، اللذين طلبا منه أن يتخلى عن الشعر المنبري، والانتقال إلى كتابة القصائد. عام 1961، أنتخب أوّل رئيس لـ«جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان». تزوج وهبي مرات عدة، وأبرز زوجاته كانت المطربة الراحلة بهيّة وهبي المعروفة باسم وداد، وقد شكّل وهبي معها ومع فيلمون وهبي ثلاثيّاً قدم عشرات الأغنيات. رغم عطاءاته، لم يحقق وهبي الشهرة التي يستحق، علماً بأنّه التقى كبار المطربين العرب، أمثال: فايزة أحمد، وردة، عبد العزيز محمود، نجاة الصغيرة، صباح فخري، عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.



«عتريس» لا يُنسى

النجومية لا تتطلب الظهور الدائم على أغلفة المجلات. قاعدة كان الممثل محمود مرسي أول من يتبناها في الوسط الفني المصري قبل نصف قرن، فهو الفنان الأكثر عزوفاً عن الأحاديث الإعلامية. لم يكن محمود مرسي (1923 ـــ 2004) يرحب بالحديث عن نفسه، مفضلاً ترك المهمة للشخصيات التي يجسدها. النقاد وصفوا أداء مرسي بالعالمي، وأشاروا إلى أنّ الفن المصري خسر دخوله المتأخر في السباق، إذ قضى سنوات شبابه الأولى دارساً ومدرّساً للفلسفة قبل أن يحترف الإخراج المسرحي والتلفزيوني ويمضى سنوات طويلة خلف الكاميرا، ولم يقف أمامها إلا على مشارف الأربعين. ملامحه الحادة وقامته الطويلة لم تحصره في أدوار بعينها، فقد نجح في الكوميديا بطريقته الخاصة في مسلسل «لما التعلب فات» (1998) لمحمد النجار. قدم مرسي شخصيات بارزة على الشاشة الكبيرة، لكن يظل «عتريس» أبرزها عام 1969 في «شيء من الخوف» (إخراج حسين كمال)، الفيلم الذي حاولت الرقابة منعه بعد هزيمة 1967. لكن جمال عبد الناصر وافق على عرضه، رغم أنّ «عتريس» كان إسقاطاً عليه شخصياً، لتظل الشخصية نموذجاً للديكتاتور الذي يظن أنه سيحكم إلى الأبد بالحديد والنار. من أشهر أفلام مرسي «الشحاذ» عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة، و«السمان والخريف»، كما أدّى دور الزوج الشكاك في «زوجتي والكلب» مع سعاد حسني ونور الشريف، فضلاً عن «حد السيف». وأغنى مرسي أرشيف التلفزيون بمسلسلات شهيرة، أهمّها «الرجل والحصان» (1982) و«بين القصرين» (1987) و«العائلة» (1994).

الفارس النبيل

لم يعد يحظى الراحلون بدموع كثيرة، فمقابر الشام بدأت تضيق بقوافل الوافدين شهداء أو أشلاء. مع ذلك، كان رحيل الفنان القدير خالد تاجا (1939ــ 2012) حدثاً استثنائياً. مع الربيع، وتحديداً في الرابع من نيسان، اختار «الحارث بن عباد» أن يترجل عن فرسه، هو الذي قال يوماً لـ «الأخبار»: «لم أختر اسمي ولا عائلتي ولا بلدي. عليّ إذاً أن أختار موتي». هكذا، جهّز شاهدة قبره وخط عليها عبارات مؤثرة، ومضى إلى مثواه الأخير عند سفوح جبل قاسيون حيث أمضى سنوات طفولته الأولى. «أنطوني كوين العرب» أدهش كل من عرفه، بثباته على هزم المرض العضال، وقدرته على التفرد بأداء تمثيلي له بصمته الخاصة. بداية نجم «التغريبة الفلسطينية» في خمسينيات القرن الماضي استهلها بأبي الفنون عندما انتسب إلى فرقة «مسرح الحرية» وعمل مع صبري عياد، وحكمت محسن، وعبد اللطيف فتحي (أبو كلبشة). ثم انتقل إلى السينما حيث جسد بطولة «رجال تحت الشمس» (1970) عن رواية غسان كنفاني مع المخرج نبيل المالح. وتحت إدارة هذا الأخير، أدّى دور البطولة في فيلم «الفهد» (1972). مع تراجع السينما السورية، توقف عن التمثيل فترة طويلة، ثم عاد ليحقق نجاحات تلفزيونية كبيرة تحتل اليوم مكانةً عميقة في ذاكرة الجمهور بدءاً من «جريمة في الذاكرة» و«أيام شامية» (1992) إلى «الزير سالم» (2000)، و«الفصول الأربعة» (1999 و2002)، و«التغريبة الفلسطينية» (2004) و«زمن العار» (2009). كذلك كان حضوره ممتعاً في الكوميديا، وخصوصاً دوره في «يوميات مدير عام1» (1995). رحل خالد تاجا لكنّ حياته المذهلة على المستويين الفني والإنساني ستبقى تحتل مساحة شاسعة من ذاكرة الجمهور ووعيه.

الفنّ هوايته

حلم عصام رجي (1944 ــ 2002) بالشهرة ولقاء العمالقة والمشاهير منذ الطفولة، لكنه لم يعلم أنّ اسمه سيوضع بين أسمائهم بعد فترة وجيزة على دخوله الوسط الفني. لم يخطر في باله أن يسمع إشادة بعمله وصوته من الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب. لم يتوقع الفنان اللبناني ألا يكمل السابعة والخمسين. وصل صاحب «فوق الخيل» (1968) إلى الساحة الفنيّة بطموح لا حدود له، هو الذي نشأ على أغنيات كبار المطربين المصريين وتأثر بفنهم، وها هو اليوم يؤثر في جيلنا. تأثير تجلّى في غناء كارول سماحة واحدة من أشهر أغنياته «يومين وشهرين» أخيراً.
في المراهقة، كان يحوّل أي قطعة معدنية إلى آلة موسيقيّة، ويغني في حفلات بلدته كفرشيما (جبل لبنان)، قبل أنّ يقرر الاحتراف مع بلوغه سن الخامسة عشرة. التحق بـ«المعهد العالي للموسيقي» وتدرّج على يدي توفيق الباشا وسليم الحلو، ودرس أصول الغناء وعزف العود، فضلاً عن الموشّحات مع ابن بلدته حليم الرومي. قبل بلوغه العشرين، اشترك في برنامج «الفن هوايتي» للإعلامي رشاد البيبي على تلفزيون «لبنان والمشرق»، وحاز الميدالية الذهبيّة. أحسن رجي استغلال الفرص الذهبية (الكثيرة) التي منحت له. أوّلاً انضم إلى مسرح الأخوين رحباني، والتقى الموسيقار فريد الأطرش عام 1972 الذي لحّن له «هزّي يا نواعم» (كلمات ميشال طعمة). ثم فاز بالبطولة على مسرح روميو لحّود مع سلوى القطريب، كما شارك في مسرح الراحل شوشو والمخرج نزار ميقاتي. «لا أحد غيره يجرؤ بعد عمالقة مصر أن يغني بصوته «يا صلاة الزين» و«غنيلي شوي شوي»». هكذا وصفه مرة المؤرّخ الفني الراحل روبير صفدي لـ«الأخبار».

شاويش السينما

شخصيته في أفلام الخمسينيات يستحضرها المصريون بعد الثورة كلما تذكّروا حال الأمن المنهار في شوارعهم. صحيح أن الكوميديا كانت الملمح الأكبر في شخصية الشاويش عطية التي طالما جسّدها رياض القصبجي (1903 ـــ 1963). لكن الملمح الآخر يكمن في إخلاصه لعمله كرجل أمن. ورغم أنه لم يكن نجم شبّاك، إلا أنّه لم يكن يحبّ أن يشاهد نفسه على الشاشة، لأنه كان يمثل من أجل التمثيل فقط. تحوّلت عباراته الشخصية إلى نكات يعاد استخدامها اليوم، وخصوصاً تلك التي كان يوجّهها للعسكري الغبي أو اسماعيل ياسين في سلسلة الأفلام الشهيرة التي حملت اسم الأخير. ومن بين تلك العبارات «هو بعينه بغباوته بشكله العكر» و«شغلتك على المركب بوررروم يا عسكري». بدأ الراحل حياته عاملاً في قطارات السكك الحديدية، قبل أن يحترف التمثيل في فرقة «السكك الحديد». ثم انتقل إلى الاحتراف وأعاد تقديم شخصية الشاويش عطية. قدّم القصبجي العديد من الأدوار الناجحة بعيداً عن الشاويش، أبرزها: زوج الآنسة حنفي في فيلم «الآنسة حنفي» الذي قام ببطولته أيضاً اسماعيل ياسين. وكان أحد أفراد عصابة ريا وسكينة الشهيرة في فيلمي «ريا وسكينة» و«اسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة». كذلك شارك في أفلام «نشالة هانم» و«أنا وحبيبي» و«حلاق بغداد». كما كان عضواً في فرق مسرحية عدة، أبرزها: فرقة «علي الكسار» وفرقة «اسماعيل ياسين». وانتهت حياة الممثل الكوميدي بمأساة شهيرة عندما أصيب بشلل نصفي منعه عن العمل، وعجزت أسرته عن توفير مصاريف جنازته بعد وفاته عن عمر ناهز الستين.



وردة السينما المصرية | صانعة البهجة

لم يمنعها الرحيل المبكر من الخلود في ذاكرة الفن المصري. الممثلة والراقصة نعيمة عاكف (1922ــ 1966) حققت ما لم تحققه نجمة في 17 عاماً من العمل في السينما والمسرح. لا تزال أشهر اسم أنجبته عائلة عاكف التي تتقاسم مع عائلة الحلو تاريخ السيرك المصري خلال القرن الماضي. انطلقت عاكف من طنطا داخل سيرك والدها، ثم جاءت مع شقيقاتها للعمل في مسارح القاهرة وتقديم لوحات استعراضية لزبائن ملهى الـ«كيت كات» الشهير. هناك، التقاها المخرج أحمد كامل مرسي وقدمها كراقصة في فيلم «ست البيت»، ليكتشفها لاحقاً المخرج حسين فوزي الذي دام زواجه بها 10 أعوام. صنع فوزي لها 15 فيلماً تمحورت حول قدرة البطلة (نعيمة) على مواجهة الظروف الصعبة بصناعة البهجة. من أبرز افلامها «أحبك يا حسن» مع شكري سرحان، و«تمر حنة» مع رشدي أباظة... ويعدّ فيلم «لهاليبو» الذي جسّدت فيه شخصية رجل، بداية انطلاقها نحو الشهرة.