إذا تحاشينا الجمع بين عالميْ الجاز وروافده من جهة، والموسيقى الكلاسيكية الغربية من جهة أخرى، تنتزع نينا سيمون الأولوية في التكريم هذه السنة في ما خص العالم الموسيقي الأول. أما في الموسيقى الكلاسيكية، فـ 2013 هو عام الألماني فاغنر، والإيطالي فيردي. أجمل ما يمكن أن يُستهَل به تكريم فنان هو الإنصاف. لذا، نحرص على الإشارة إلى أن المؤلفة وعازفة البيانو والمغنية والمناضلة السمراء نينا سيمون (1933 ــ 2003) تتربع على عرش موسيقيّ خاص، «سرقته» منها ديانا كرال بالتضخيم الإعلامي وانصياع فئة من الجمهور (الجيل الجديد غير الباحث وغير المستقل برأيه) لمنطق السوق والدعاية.
نينا سيمون التي ذاقت الأمرّيْن قبل أن تفرض ـ بقوة الموهبة والجهد ـ تقدير الرجل الأبيض لها، يهمشها بعضهم اليوم لمصلحة الشقراء ديانا كرال، التي توهم كثيرين بقدرات عالية في الغناء والعزف على البيانو، لكن في الواقع، إذا كان الغناء صوتاً وأداءً، فسيمون التي تركتنا قبل عشر سنوات، تتمتع بصوت تفوقه بعض الأصوات الخارقة، صحيح، لكن لناحية الأداء هي من سلالة الأحزان والآلام والأحاسيس الصادقة...
من سلالة بيلي هوليداي. في هذا وحده تتخطى تلك الشقراء المبالغ في تقديرها. أما مجال العزف على البيانو، الذي تمتهنه كرال بسطحية، فالفنانة الراحلة لا منافس لها على الإطلاق فيه بين متقني هذه الآلة من الجنس اللطيف. لهذا أسباب عدة محزنة، لكنها تبقى المقاربة الأمثل للإضاءة على تجربة نينا الفنية. بمعنى آخر، لماذا تتفوق على زميلاتها ممن يعزفن على البيانو في كل الأنماط الموسيقية (باستثناء الكلاسيكية منها)؟
سمع أحد عشاق الموسيقى الأميركية السوداء، مِن غير الملمّين بالموسيقى الكلاسيكية، عزفاً على البيانو، فسأل: هذه نينا سيمون، أليس كذلك؟ فأتاه الجواب: كلا، هذه مقطوعة لباخ. طبعاً، هذا الخطأ في التقدير سببه تمكّن سيمون من آلتها و«عشقها المجهَض» للموسيقى الكلاسيكية، ما كان يسمح لها بإقحام مساحة مرتجلة تقلِّد فيها أسلوب تأليف المؤلف الألماني (مثال واضح: أغنيةLove Me or Leave Me)، لكن لماذا لجأت سيمون إلى محاكاة باخ في الجاز بدلاً من أداء أعماله؟ ببساطة: كان ممنوعاً على السود، آنذاك، خوض هذا المجال!
ولدت نينا سيمون في الولايات المتحدة عام 1933 ورحلت عام 2003 في فرنسا. عانت فقر العائلة وعشقت الموسيقى فعملت المستحيل لتأمين دراستها. كأي فتاة سوداء تعرفت إلى البلوز والجاز والغوسبل، لكن حبها الأكبر كان للموسيقى الكلاسيكية. كافحت حتى وصلت إلى المرحلة الأخيرة التي تجعلها أول عازفة بيانو كلاسيكي في أميركا، لكن العنصرية كانت لها بالمرصاد. رفضها معهد «جوليارد» العريق ما حطّم أحلامها إلى الأبد، ودفعها إلى الانخراط في النضال لأجل نيل حقوق أبناء جلدتها. نضالٌ جعلها إنسانة حساسة تجاه الظلم، أضيفت إليه لاحقاً مناهضتها الشرسة للحرب على الفييتنام. لم توقف تعمّقها في البيانو (على يد أستاذيْن من أصول أوروبية شرقية)، لكنها اضطرت إلى العمل في أحد النوادي الليلية، حيث فرض عليها صاحبه الغناء إلى جانب العزف. هكذا بدأت مسيرتها تحت اسم مستعار: نينا سيمون كي تبقي الأمر سراً تجاه عائلتها: «نينا» (أو «نينيا») تعني فتاة صغيرة في اللغة الإسبانية، و«سيمون» وهو اسم الممثلة الفرنسية الشهيرة سيمون سينيوريه، التي كانت المغنية الأميركية قد شاهدت أحد أفلامها وتأثرت بشخصيتها.
بدأ نجم نينا يسطع أواخر الخمسينيات إثر تسجيل أغنية I Love You Porgy الشهيرة، ثم توالت تسجيلاتها وحفلاتها حتى 1974. ظهرت على المسرح ظهوراً متقطّعاً بعد ذلك، لكنها لم تعلق نشاطها الفني حتى 2002، حين اشتد عليها المرض (سرطان الثدي) الذي غلبها عام 2003، خمس سنوات بعد أمسيتها في لبنان ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية».
إضافة إلى مواهبها الأساسية في الأداء والعزف على البيانو، كان لنينا تجربة في التأليف (أشهر أعمالها أغنية Images)، لكن أغنيات كثيرة ارتبطت باسمها، سيما أنها كانت تتولى إعدادها الموسيقي، منها ما كتِبَ خصيصاً لها، ومنها كلاسيكيات برعت في استعادتها. وبين هذه وتلك، نذكر Why? المهداة إلى مارتن لوثر كينغ وMississippi Goddam وOld Jim Crow (من مرحلة النضال) وI Put a Spell On You (أعطت اسمها للسيرة الذاتية التي أنجزتها نينا سيمون عام 1992) وSinnerman وLilac Wine وNe Me Quitte Pas (أغنية جاك بريل التي غنتها بلغتها الأصلية لكن بلكنة إنكليزية)، و Don’t Explain وStrange Fruit (التحية الأجمل لبيلي هوليداي، مؤلفة هاتين الأغنيتيْن). ولدت نينا سيمون في أميركا وتوفيت في فرنسا. وبين المحطتيْن جالت العالم. غير أن رمادها منثور فوق بلدان أفريقية عدة كما أوصت قبل رحيلها. هي من تراب هذه القارة المستعبدة وإليه عادت حرّة.