مثل قصائده، يطل صلاح فائق (1945) على العالم من نافذة افتراضية بعد غياب ربع قرن (منذ مجموعته «رحيل» في لندن عام 1987). من خلال صفحته على الفايسبوك، استطاع محبّو الشاعر العراقي أن يتابعوا جديد قصائده أولاً بأول، إذ لا يبخل عليهم بإضافة نصوصه الجديدة، بل إنّ الفايسبوك نفسه كان موضوعاً لأحد نصوصه الأخيرة (هُناكَ حَمْقى يَقرأون قَصائد لي/ في الفَيسْبوك أو في كُتبي الوَرقية/ يَحق لَهُم أن يقرأوها.
حتَّى أنا، أحْياناً، أقرأُ قَصائد لي/ في هذا، مثلهم، لي الحَق./ أحبّ أن أتفرَّج، مبتسماً، على مَن يَحْمل/ كتبي أو يُرتّبها في مكتبته ويُحاوِل، يائساً/ تهدئة حيوانات في مَقاطعي وصوري./ هذهِ الحَيوانات لا تعرفه، ولا تطمئن اليه/ وهذا حقّ من حقوقها). نسأله عن هذه العودة الإلكترونية وعن صفحة Salah Faik Poetry فيقول «نعم، أنقذني الفايسبوك من العزلة. وضعت كل كتبي في هذه الصفحة. وطالما أنّني لا أستلم شيئاً من الناشر، فالأفضل عرضها مجاناً. لقد أعدت علاقات كثيرة مع أصدقاء وشعراء، إضافة إلى قراء جدد عبر هذه الوسيلة الرائعة. وسأضيف كتاباتي الأخرى بالتدريج». لم ينقطع صلاح فائق عن الكتابة. اختار فقط وقف التعامل مع دور النشر لمدة تزيد على ربع قرن، فـ «النشر العربي مرتبط بالأنظمة السياسية وبتمويل الدول. وهذا أحتقره. حتى لو كان الناشر مستقلاً كتاجر، إلا أنّه خاضع لرقابات». غير أنّ فائق عاد مجدداً للنشر مع «الجمل» التي أصدرت أخيراً مجموعته «دببة في مأتم». التخلي عن قرار القطيعة جاء «حين دعيت عام 2011 الى مهرجان شعري في جنوب فرنسا. هناك، لاحظت الاهتمام بكتبي السابقة من عدد كبير من الشعراء العرب. وقد شجّعني ذلك على النشر مجدداً. سبق لدار «الجمل» أن نشرت احدى مجموعاتي (أعوام). وقد عرض الصديق خالد المعالي أن ينشر لي مجموعتي الجديدة وهذا ما حصل. لي مجموعات أخرى أتمنى نشرها أيضاً». يقول فائق: «وضعت كل ما أملك في حقيبة/ أريد أن أسافر/ لا أعرف إلى أين/ منذ ساعات أجلس في حجرتي/ وإلى، ربما، وقت متأخر من الليل/ دون أن أفعل شيئاً/ أحب أن أسافر». ثيمة السفر والرحيل لا تستدعي بالضرورة المنفى، إنها رحلته الخاصة ــ الداخلية ربما ــ لبلوغ الحرية الكاملة. حرية الصورة الشعرية ربما، تجاوز الايديولوجيا بحساباتها المقولبة، والتعالي على الانحيازات السياسية، ولعله واحد من الشعراء القليلين الذين لم ينقل على ألسنتهم واحد من التصريحات السياسية الصاخبة، متجاوزاً كذلك «وجع المنفى»، رافضاً وصف المنفي «لم أشعر أبداً بأنني منفي. لم أطلب لجوءاً في أي بلد، ولم أعش أبداً على المساعدة الاجتماعية لأي دولة، ولم أتورط في أي علاقة سياسية مع المعارضة العراقية أو العربية في أوروبا». انتقل الشاعر من العراق إلى دمشق فبيروت ثم لندن وأخيراً الفيلبين: «تركت العراق في نهاية 1974. أنا في الفيلبين منذ نهاية 1994، فزوجتي كانت فيلبينية. لم أتحمل شتاء بريطانيا التي مكثت فيها 20 سنة. أردت أن أعيش في بيئة مختلفة طبيعياً وثقافياً».
بالعودة إلى البدايات، يتذكّر تفتح وعيه على السريالية: «كان أبي متصوفاً يحدثني عن الرؤيا والاحلام والتعالي وغيرها من التعابير الصوفية. وهذا سهّل اكتشافي للاجواء السريالية في الحياة وبعدها في الكتابة». وهنا يتذكّر مدينته كركوك في الستينيات. مع سركون بولص، وفاضل العزاوي، ومؤيد الراوي، وجليل القيسي، وجان دمو، والأب يوسف سعيد، شكّل صلاح فائق مجموعة أدبية حملت اسم مدينتهم، يقول: «كركوك مدينة بناها السومريون وما زالت قلعتها هناك. كنت محظوظاً للقائي بعدد من الشعراء والكتاب في تلك السن المبكرة. لقد ساعدوني بنصائحهم واقتراحاتهم. جان دمو وسركون بولص كانا الأقرب إليّ لأنّنا كنا في مدرسة واحدة». وعن علاقته بمجايليه خارج العراق، وخصوصاً وديع سعادة الموجود أيضاً على الفايسبوك، وقد توطدت علاقته بفائق من خلال الصفحة التي أنشأها سعادة لصديقه، يقول «أعرف وديع سعادة كشاعر متميز منذ سنوات طويلة. السنة الماضية فقط استطعت دخول عالم الفايسبوك، وقد كان كرماً كبيراً أن يتصل بي ويعرض إنشاء صفحة لعرض كتبي». لا مكان للحنين أو لاجترار الذكريات في مخيلة الشاعر، الانفلات الكامل من سطوة الواقع بتفاصيله، باستثناء ما هو يومي. يقوّم تجربته الشعرية اليوم «أظنها مختلفة عما كانت في مجموعاتي الأولى. خفّ تأثير الذاكرة وأخذ المخيال يهيمن على المشهد الشعري وهذا جيد». مع ذلك، يعود ليذكر كركوك التي يعرفها: «لم تعد موجودة. إنّها في الذاكرة فقط» ثم يؤكد مجدداً: «تخلصت من مشاعر الحنين كما هي. أنا شاعر أعيش في هذا العالم وهو وطني ومدينتي وبيتي».



جماعة كركوك vs «شعر»

يصرّ صلاح فائق على فرادة تجربة جيل الستينيات و«جماعة كركوك»، نافياً تأثيراً لمجلة «شعر» وأدونيس: «نشر بعضنا في «شعر» كسركون بولص ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي. أنا نشرت في صحف العراق قصيدة مطولة في مواقف ادونيس عام 1975. لا أعتقد أنّ تأثيراً لادونيس أو مجلة «شعر» ظهر في كتابات هذه الجماعة. كنا ماركسيين وشيوعيين، وكانت مصادر قراءاتنا مختلفة وغنية. كنّا في قطيعة مع ما كان رائجاً. كلنا تقريباً من أصول كردية وتركمانية واشورية. قراءاتنا كانت خارج اللغة القومية والدينية، وكنا على تواصل بأفضل الكتابات الحديثة في اوروبا وأميركا اللاتينية».