أراد زياد الرحباني أن يكون حواراً مع الطلاب لا تكريماً له. أصرّ على «مركز الالتزام المدني وخدمة المجتمع» في الجامعة الأميركيّة في بيروت أن تجري الأمور على هذا النحو. برأيه، الناس لا يحبّون الذين يكرّمون. يفضّلون مبادلتهم الحب. أمس، لم يقل الرحباني ذلك، لكنه من هؤلاء الذين يكتفون بعلاقة طبيعيّة مع الناس لا يسودها التكلّف. والقول إنّ قاعة «ويست هول» امتلأت تماماً ليس مبالغاً فيه، بل لا يكفي للوصف. رئيس الجامعة، بيتر دورمان، كان يعرف ذلك، فمازح الحاضرين أثناء ترحيبه بالضيف: «نعلم جيداً أن هذا الحشد بسببه وليس بسبب أحدنا». كانت الزحمة متوقعة، لكنها رغم ذلك فاجأت الجميع إلا الرحباني نفسه. صاحب الشخصيّة القويّة أثبت كما في كل مرة أنه شخص لا يحرج بسهولة، ربما لأنه لا يجد نفسه مضطراً إلى المواربة حين توجه له «الأسئلة الصعبة». تأتي إجاباته دائماً على ذات القياس، فتحمل ذات القدر من الصعوبة.
عندما سألته إحدى الطالبات أمس عن رأيه بحزب الله في الثقافة والسوسيولوجيا، اعتبر كثيرون أنه هرب من الإجابة، رغم أنه ذكّر برأيه في هذا الموضوع أكثر من مرة. يعرف العارفون ـــ والذين يريدون أن يعرفوا ـــ أن الإجابة ليست ملتبسة. لا ينسجم عازف البيانو مع شكل الحزب الديني، ويكاد الخلاف معه في هذا الإطار أن يكون عميقاً. لا يروقه التصويب على هذه النقطة، لكنه يستغرب «هشاشة» الحزب الشيوعي، وقد وجد فرصة أمس للتذكير بذلك. زياد الرحباني شيوعي وهذا ليس سرّاً، ولعل ما يطال حزبه من نقد يخرج منه، يفوق بكثير النقد الموجه للآخرين. إنها قناعة «لينينيّة» راسخة في رأس «صانع الجاز»: «التغيير من الداخل». والداخل هو «الحزب»، الذي هو «الشيوعي» حسب الرحباني، علماً بأنه لا يمانع في تغيير اسمه ليصير جامعاً. لا حاجة إلى أحزاب بديلة، وولادة حزب جديد «تقتضي حذف 6 أحزاب موجودة في المقابل». لا يمانع الفنان الماركسي في تغيير الاسم، ورحب ترحيباً خاصاً بالأب مارون عطا الله الذي تعرّف إليه في أنطلياس عندما كان عمره 16 عاماً، ونبهه إلى ضرورة «التعرف إلى الآخر».
ينتظر الطلاب من زياد الرحباني أن يكون «قائداً». ثمة طالبة لم تجد حرجاً في أن تطلب منه «قيادة ثورة في لبنان». وعندما سألها زياد لماذا لا تقوم بذلك بنفسها، قالت إنها لا تريد أن تعطي رأيها، فأجابها على الفور: «إيه وأنا كمان». كان هذا الأسلوب الذي يميّز الرحباني حاضراً في الحوار. قدرته الغريبة على القسوة، من دون أن يترك ذلك أثراً صلفاً. ضحك الجميع حتى الطالبة التي لم تجد جواباً واضحاً. لماذا يكون الرحباني قائداً وهو موسيقي؟ طالب آخر وجّه له سؤالاً في السياسة، مستغرباً لجوءه إليها، هو الذي «اعتاد الوضوح». لم يقسُ الرحباني هذه المرة، بل تحدث عن تجارب يسارية سابقة. صحيح أن القصص القديمة محببة إذا رواها زياد الرحباني بلهجة «رشيد»، لكن ارتباط «الجمهور» بالحاضر أوثق من الماضي بكثير. وهذا تحديداً ما يمنع صاحب «فيلم أميركي طويل» من العودة إلى المسرح. يشعر أنّ «المسافة بين الأجيال اتسعت» ولا يفهم حتى اللغة الشائعة اليوم. اعترض على فائض اللاتينيّة في لغويات الجيل الحالي واستعمال أرقامها كأحرف أثناء الكتابة، وشجع على الكتابة بالعاميّة، لأن ذلك لا يبعد عن اللغة العربيّة.
لشدة التصفيق، لا يفهم الحاضر إن كان الطلاب قد تلقفوا إجابات الرحباني. اضطر محاوره، الباحث الاقتصادي كمال حمدان، أكثر من مرة، إلى إعادته إلى السؤال الأصلي. معروف عن زياد الرحباني أنه يقول ما يريد أن يقوله فقط. من الصعب انتزاع حرف إضافي منه. سُئل عن «الربيع العربي»، فانتقل برشاقة إلى أهميّة الحركة النقابيّة في العهود السابقة، من دون أن يحدد موقفاً فجّاً على مقاس السائد. وهذا ليس لأنه مقيم في حقبة صعود اليسار، أو لأنه زياد الرحباني «المثير للجدل»، بل لأنه موسيقي. عندما يتكلم على الموسيقى، تزداد ملامحه شغفاً، ويخشى الإيغال في السياسة أكثر من اللزوم. على سبيل «النكتة»، قال إنه يريد أن يصبح ضابطاً «في الفياضيّة» لو يقبلون به هناك، وكرر رأيه بحريّة الرأي: لا يريدها إن كانت شعاراً فارغاً. يعرف جيداً أنه «يخسر جمهور»، ولكن ما يهمّه هو «الموقف». لقد اتخذ موقفاً (سياسيّاً) يراه أخلاقيّاً وليس بوارد التراجع كي «يكسب جمهور». استعاد مواقف قديمة له ضدّ النظام السوري حين وقف الأخير مع «اليمين اللبناني»، وذكّر بأن الذين يقفون ضدّ هذا النظام اليوم، هم الذين جاؤوا بجيشه إلى لبنان. كثرت الدعوات إليه بالعودة إلى المسرح. وفي كل مرة، كان يعلو التصفيق. الجمهور يحب زياد الرحباني الذي لا يتأخر.
في الواقع، تأخر الموسيقي قليلاً قبل الوصول. ربع ساعة. تلهى المنتظرون بتبادل التوقعات. كان الترحيب بالرحباني لافتاً في الجامعة الأميركيّة، ولكن حدث تشويشان بسيطان في الوقت نفسه تقريباً. تمثل الأول في خبر أوردته «وكالة الصحافة الفرنسيّة» ووصل إلى الهواتف الخلوية، يقول إنّ «جبهة النصرة» بايعت الشيخ أيمن الظواهري زعيم «القاعدة»، تزامناً مع قيام بضعة طلاب برفع لافتات (مستوحاة من أعماله) تندد برأي زياد في الأحداث الجارية في سوريا. وقد وصلت الرسالتان في الوقت ذاته.
8 تعليق
التعليقات
-
لم يكن غريباً هذا الموقف الذيلم يكن غريباً هذا الموقف الذي اتخذه زياد اليساري، بالنظر إلى أن اليسار في منطقتنا هو أربعة أقسام: يسار سني، يسار مسيحي، يسار شيعي، ويسار درزي.
-
حبذا لو أن الممانعة التي كانتحبذا لو أن الممانعة التي كانت في القاعة تناولت موضوع الاحتجاج بالاستخفاف الذي قابله به الكاتب، بدل أن تقفز صارخة "برا، برا." فعلاً "أوهن من بيت العنكبوت."
-
رسائل متزامنة... والأسماء ليست دائما شواهد...أن تكون منجازا إلى زياد فلا بأس بذلك، أما أن توازي ولو زمنيا بين من احتج على زياد والمبايعة ففيه رسالة تشي بأنك أخلاقيا أقرب إلى الثاني من للأول. لماذا تقدم كيساري (مفترض) خدمة لهؤلاء ومن تظن أنه سيقف إلى جانب اليسار في مواجهة القبح القادم؟ لم تحسن بهذه النهاية غير الحميدةلمقالك.
-
تحية لكم بتمنى من كل قلبي لوتحية لكم بتمنى من كل قلبي لو في مجال يوصل هالكلام للاستاذ زياد الرحباني حابب قلك انا انسان سوري من ضمن ناس كتير بحبوك وبيعشقوا نتاجك وفنك وانتمائك بتمنى تعرف انو منحبك لما عملت بعدنا طيبين وضلينا نحبك لحتى شرفتنا بالشام وهلق بمواقفك كل يوم حبك عم يكبر بصراحة انا مدمن زياد هاد مو هوس بس هي ثقة حقيقية فيك وتجربة حياة طويلة معك من خلال ما قدمت حضرتك بالقلب في كلام كتير وطلبات كتيرة الك وفي محبة اكبر واكبر بتمنى بيوم تقبل وتكون انت واحد من قادة الحزب وبتمنى متلك يتغير اسمو بس بطريقتي يكون الحزب الشيوعي بلاد الشام على فكرة الصادق والحقيقي والشريف متل استاذ زياد هيك كتير فترات بدون قصد بيمشي ضد التيار لانو ما نو مزيف ولانو استثنائي شكرا
-
الظاهر أن المظاهرة الصغيرةالظاهر أن المظاهرة الصغيرة فعلت فعلها حتى يمر الكاتب عليها مرور الكرام.
-
ما أحلاها آخر جملة ...ما أحلاها آخر جملة ...
-
شكرا زياد الانسان المبدئي والفنان المبدعزياد الرحباني هذه كلمات قليلة تعبر عن حب وشكر عظيمين مني كمواطنة سورية وجدت الموقف الذي تنتظره من الفنان الذي تعشقه تجاه الحرب ضد بلدها تحت غطاء الثورة .. زياد انت كما كنت وكما ستبقى دائما ولم أكن قادرة على الشك لحظة في صحة تقديرك لما يجري في بلدي , كنت فقط أنتظر أن تعلن هذا الموقف الذي تجلى في رفضك لهذا العنف والتطهير العرقي وتقسيم سوريا وجعلها ولايات تابعة للأجنبي , سوريا القلعة الصامدة وآخر أمل عروبي لن يرضى لها زياد الرحباني إلا أن تبقى شامخة كجبل قاسيون .. زياد الرحباني شكرا من القلب لأنك ما تغيرت وبعدك متل ما انت .. في حين الكثير من اليساريين صاروا بالضفة التانية وعار على اليسار أن ينسبوا اليه .