بعد سنوات قليلة على وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم في تركيا عام 2002، بدأ التركيز على توطيد العلاقات مع العرب، وخصوصاً مع تزايد النشاط التركي في المنطقة. عندها، بدأ التوجّه إلى العالم العربي بشتى الوسائل، وعلى رأسها الثقافة والإعلام. أولى الخطوات العملية تجسدت في إطلاق محطة جديدة لـ«مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية» (TRT) ناطقة باللغة العربية قبل حوالى ست سنوات. ولدت الفكرة من اقتناع السلطات التركية «بضرورة إيصال أخبارنا إلى العالم العربي مباشرة، من دون الاعتماد على الوكالات الدولية»، إلا أنّها لم تحقق النجاح.
يعزو المسؤولون الأتراك ذلك إلى «النقص في الكادر البشري التركي الذي يتحدث العربية». في موازاة الإعلام، اهتم الأتراك بالثقافة، فغزت المسلسلات التركية المدبلجة الشاشات العربية، وصارت اسطنبول قبلة السيّاح العرب، وبرز العالم العربي بوصفه سوقاً كبيرة مُربحة لبلاد الأناضول. هكذا، تحوّل أبطال الدراما التركية إلى نجوم في الوطن العربي، واستثمرت السلطات نجاحهم في المؤتمرات التركية ـ العربية، فشاركت الممثلة سونغول أودان في «المنتدى الإعلامي التركي ـــ العربي» عام 2011 (الأخبار 16/11/2011)، والممثل كيفانتش تاتليتوغ (مهنّد) في الاحتفال الرسمي المخصص لاستقبال المشاركين في «مؤتمر التقارب التركي ـــ العربي» قبل ذلك بعام. ووصل «الغزل التركي العربي» قبل اندلاع الانتفاضات إلى حد تشويه التاريخ كرمى لعيون الأتراك، كما رأينا في مسلسل «سقوط الخلافة» (الأخبار 24/6/2010).
ورغم إدراج «وكالة الأناضول للأنباء» على لائحة أدوات التقارب التركي ـــ العربي، غير أنّ التنفيذ تأخر حتى العام الماضي. في 6 نيسان (أبريل) 2012 انطلق القسم العربي من الوكالة، للأهداف نفسها التي وضعت لـ«TRT ـــ عربي» وافتتح قبل أشهر مكتباً له في ساحة رياض الصلح في بيروت (الأخبار ٢٣/1/٢٠١٣). يؤكد رئيس القسم العربي في الوكالة توران قشلاكجي لـ«الأخبار» أنّ تأخر المشروع حدث أيضاً لأسباب تتعلّق بالموارد البشرية، مشيراً إلى أنّه كان ضرورياً «التخلص من الوسيط الغربي الذي كان يجتزئ أخبارنا ويصوّر العالم العربي كأنّه مجرّد بؤرة من الانفجارات والتخريب». إلى جانب «توصيل الصورة الحقيقية»، يشدد قشلاكجي على أنّ أحد أبرز الهواجس التركية هو «التقرّب من أقربائنا الذين فقدناهم بعد «معاهدة لوزان» (1923)، وخصوصاً العرب». لا ينكر قشلاكجي أنّ «الربيع العربي» سرّع في إطلاق القسم العربي من الوكالة التي تأسست عام 1920، إلا أنّه يوضح أنّ هناك حاجة ماسّة لإظهار الوجه الآخر للعالمين الإسلامي والعربي: «فيهما مثقفون ومبدعون يعملون لأجل أوطانهم ويريدون الوحدة. هم واعون وليسوا مسيّرين». وفيما يحرص قشلاكجي على التأكيد أنّ الوكالة التي تتخذ من «الثقة والحيادية والأخلاق والسرعة» شعاراً لها، لا تتبع للحكومة، يلفت إلى أنّها لا يمكن أن تضر بالأمن القومي والمصالح التركية. «نحن وكالة شبه رسمية، تتقاسم ملكيتها الحكومة مع رجال أعمال ينتمون إلى اتجاهات مختلفة». لكن هنا، لا بد من الإشارة إلى أنّ متابعة أداء الوكالة خلال الفترة الماضية تظهر نشاط مكتبها الرئيسي في القاهرة عبر أخبار وتحقيقات كثيرة، لكن الأهم هو تحوّلها إلى ما يشبه «وكالة رسمية» للرئيس المصري محمد مرسي والإخوان، فضلاً عن نشرها بروباغندا حكومة بلادها في المحروسة واليمن وغيرهما. يأسف قشلاكجي للاتهامات التي توجّه إلى بلاده بلعب دور مشبوه في العالم العربي اليوم، معتبراً أنّ «هؤلاء لا يفهمون السياسة التركية».
اليوم، تحتفل الوكالة الناطقة بخمس لغات (العربية، التركية، الإنكليزية، الروسية والبوسنية) بإطلاق خدمتها الجديدة في نشر الأخبار والصور ومقاطع الفيديو المدفوعة الأجر، آملة احتلال مكانها بين الوكالات الدولية الخمس الأولى بحلول العام 2020.
في النهاية، صحيح أنّ «الربيع العربي» سرّع عملية دخول الإعلام التركي إلى ديارنا، لكنّ الأكيد أنّ تحالفات تركيا في المنطقة ومواقفها الداعمة للإسلاميين وأدوارها المتعددة إزاء ما يجري على الأرض عوامل لن تسهّل مهمة هذا الإعلام الذي يدعي الحيادية، أقلّه في المرحلة الحالية.