القاهرة | أنفق الكاتب والمترجم بشير السباعي الكثير من السنوات للكشف عن تراث الحركة السوريالية في مصر. في محطات كثيرة من حياته، سعى إلى تصحيح ما ارتبط بهذه الحركة من إشكالات بسبب ما شاع عن علاقات عضوية ربطت بين أبرز رموزها وتنظيمات يسارية عرفتها مصر في الأربعينيات. وأخيراً، أصدر السباعي كتاب «بلاء السديم ـــ مختارات من أعمال كاتب سوريالي» (دار بيت الياسمين) ضم ترجماته لأعمال الشاعر السوريالي المصري جورج حنين (1914 ــ 1973).
الكتاب مناسبة مهمة للتذكير بدور حنين في الأدب العالمي، هو الذي اعتبره أندريه مالرو منذ 1939 «النموذج الأكثر ذكاء في القاهرة». وبحسب إشارة السباعي في مناسبة سابقة، فإنّه من المؤسف أنّ المؤرخين المصريين لم يقدموا دراسة في فكره المعقّد، مكتفين بالحديث عن «تروتسكيته المزعومة». لكنّ هذا الكتاب يتيح للمرة الأولى باللغة العربية الكثير من النصوص والتأملات التي كتبها حنين عن الفن بوصفه أسلوب حياة، وعن الواقعية وموقع المثقف في المعركة. وكلّ هذه التأملات تنفر من فكرة الالتزام بالمعنى الضيق، وتسعى إلى تجذير الحرية مفهوماً مطلقاً في واقع مأزوم. تشير النصوص الى موسوعية صاحبها الى جانب قدرته على التحرر من ثقل اللحظة السياسية التي كان على مسافة نقدية منها. يقدم الكتاب رؤية بانورامية تسعى إلى الإحاطة بإنتاج حنين المتنوع والغزير، وتكمل جهوداً سابقة في هذا الاتجاه أنجزها الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، والناقد المصري سمير غريب في كتابيه «السوريالية في مصر» و«راية الخيال».
اللافت أنّ السباعي لم يكتب مقدمة تعريفية تنقذ حنين من التباسات تعلّقت به. لقد فضّل الاعتماد على نص كتبه جان جاك لوتي المؤرخ الفرنسي للحركة السوريالية في مصر ومؤلف «مصر في زمن بونابرت». والحال أنّ حنين اختار تحديد هويته تحديداً سلبياً. اعتبر نفسه مناهضاً للستالينية وللمسيحية أيضاً، ولم يزعم قط أنّه تروتسكي. كان شاعراً وناقداً سوريالياً وعضواً في التجمع السوريالي الملتف حول أندريه بروتون منذ 1936 وخرج منه عام 1948. كان هذا التجمع يؤيد فكرة تروتسكي عن استقلال الفن عن مختلف أشكال الحكم. لكنّ حنين الذي لم يكن عضواً في أي تنظيم سياسي بحسب السباعي، أسهم في تأسيس «جماعة الفن والحرية» في كانون الثاني (يناير) 1939، وشارك في إصدار ودعم مجلة «التطور» عام 1940. ويرى الكثير من الكتّاب الجدد في مصر أنها بشرت بنموذج ملهم لفكرة الحداثة في مصر.
في مقدمته اللافتة، يشير جان جاك لوتي إلى الأفكار التي تبلور مساهمات حنين وجماعته من السورياليين المصريين، لافتاً الى أنّ هذه الجماعة كانت تطرح نفسها بوصفها وريثة رامبو ولوتريامون. هي حركة تحث على صدم الأساليب المألوفة لاستجابات الحواس، وتنشر مزاج السخرية السوداء، وتحرض على التمرد على كل ما من شأنه الإخلال بالحرية المطلقة. وبهذا، فإنها تمس كلّ مجالات المعرفة ولا تتركها على حالها. وما الخيارات السياسية للحركة السوريالية سوى نتائج طبيعية مصاحبة لهذه المواقف كلّها. ويترتب على ذلك، ولا سيما في المجال الأدبي، أنّ السورياليين يرفضون التقنيات التقليدية. هكذا فالحركة السوريالية هزت ما يستحسن تسميته المؤسسة المحلية. كان الناطقون بالفرنسية، ولا سيما الأكثر شباباً، هم أول من يصغون للأصوات الجديدة وأول من ينكَبُّون على مناقشتها. أما الصحافة الأدبية المصرية ـــ وهي «عزبة» للمتقدمين في العمر ـــ فقد ظلت متحفظة وإن لم تحرم نفسها أحياناً من التهكم على محاولات المجددين. والحال أنّ جورج حنين أدخل السوريالية إلى مصر عام 1934 عندما نشر كراسين، أولهما بحثٌ تنكر له بعنوان «تتمة ونهاية»، وثانيهما كراس لم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكر له، وعنوانه «التذكير بالقذارة». الواقع أنّنا لا نتنكر، مخلصين، لعنفنا الخاص إلا كي نتبنى عنفاً أشمل. وقد واصل نشاطه عبر إلقاء عدد من المحاضرات، ومن بينها محاضرة عن الجاز، وأخرى عن لوتريامون. بعد ذلك بسنوات، حاول تقديم رؤية شاملة، فعرض أفكاره في محاضرة، نشرت بسرعة، وكان عنوانها «حصاد الحركة السوريالية» (1937). وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان «يحيا الفنّ المنحط!». وهو عبارة عن احتجاج على الحظر الذي فرضه هتلر على فن التصوير الحديث، كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي والتمرد على المبادئ الموروثة الجاهزة.
بعد ذلك، أسس حنين «معرض الفنّ الحر» ورعى مجلة أسبوعية اسمها «دون كيشوت» (12 عدداً). ومن بين من كتبوا لها، نذكر: رمسيس يونان، منير حافظ وماري كافاديا. ثم استقطب هذا النشاط مجموعة من الأسماء التي صارت بارزة بعد ذلك، مثل: كامل التلمساني، فؤاد كامل، رمسيس يونان وسمير رافع... يضم الكتاب ترجمة لأحد أبرز أعمال حنين الشعرية: «لا مبررات الوجود» (1938). عنوان يشكل بحدّ ذاته تحدياً كما يشير لوتي الذي يقول «والحال أنّ القصائد، مثلما هي الحال إلى حد ما عند بروتون أو بريفير، تتدافع كشلال من الصور غير المألوفة التي تتلاطم، ثم تنفجر كأسهم نارية لأنّ مجازات جورج حنين إعادات خلق لانهائية للزمن».
بعد خروجه من تجمّع السورياليين في العالم، واصل حنين طريقه بمفرده كما يشير مؤرخو أعماله، متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية. هو يعمل عن طريق الحذف ويتقدم عبر الإلغاء. وقد بدا له أنّ هذا النهج في التصرف يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية، ومواقف وحالات تفك عقد الوجود. والحال أن عدداً من القصائد التي تضمنها الكتاب في مجموعة «المتنافر» (1949) وصفحات معينة في «العتبة المحرمة» تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد.
بحسب الكتاب، لم يحاول حنين فرض تيمات جديدة. حاول إنعاش بيئة شعرية وإطلاق حرية شكل من أشكال التعبير ينبثق من التداعيات التلقائية والمحفوفة بالاحتمالات غير المتوقعة. انكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينظر فيها نظرة تتميز بقدر كبير من الصرامة والقسوة، ليس بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها رامبو، بل بهدف إعادة هذه الفوضى إلى خطوطها الأساسية ولحظاتها الحاسمة.
نتائج الحركة السوريالية في الأدب كانت طفيفة. ويبدو أنّ سبب ذلك يكمن في تنافر معين مع القواعد الشعرية السائدة في مصر آنذاك. خلال الثلاثينيات والأربعينيات، كان الأدب العربي وثيق الارتباط بالتراث والتقاليد، وكان يبحث عن نماذجه بين الشعراء السابقين على الإسلام وعند أساتذة راسخين مثل المتنبي أو الجاحظ. والحال أنّه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مؤسسي الحركة السوريالية. ولم يكن بوسع الشعر العربي الحديث أن يلج دروب مغامرة الأدب الطليعي، من دون أن يجازف في فقدان هويته، أو على الأقل، كان ذلك اعتقاده. في المقابل، يمكن تلمّس هذا الأثر بشكل أفضل في الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر. ولنقل بوضوحٍ تام إنّ السوريالية كانت أول حركة أدبية تولد في مصر في الوقت عينه تقريباً، الذي ولدت فيه في فرنسا. جميع الحركات التي سبقتها كانت تجيء متأخرة زمانياً، وأحياناً كانت تجيء بعد جيل. أما في ما يتعلق بالسوريالية، فقد كانت القاهرة مواكبة لباريس.



تأملات و... صوفية

ضمّ «بلاء السديم» مقالات ونصوصاً شعرية وترجمات أنجزها المفكر الراحل أنور كامل والشاعرة هدى. وكانت قد نُشرت في مطبوعات على أزمنة متفرقة ولم تُجمع في كتاب، بينها نصوص نادرة حول تصورات جورج حنين عن واقع العالم ما بين الحربين، وتأملاته في علاقة الشعر بالمستقبل، ونص فريد يعلق فيه على نصوص محيي الدين بن عربي، ما يزكي الربط الذي حاوله أدونيس بسعيه إلى تأمل الصلاة بين الصوفية والسوريالية.