مجموعة «فرح البنات بالمطر الخفيف» (دار العين ـ القاهرة) مختارات قصصية لياسين عدنان. 18قصة مكتوبة بتقنيات مختلفة، حيث يحضر الكاتب نفسه كأحد الأبطال في بعضها، بينما يحمل السرد قدراً من الاعتراف أو الهذيان. يتخلى الكاتب والشاعر المغربي عن دور السارد الذى يقف خارج الأحداث، ويضع نفسه في قلبها، ويرسم مصائر أشخاصه بطرق مختلفة. في قصته «ثرثرة بالأبيض»، فتاة تهذي أمام شخص يجالسها فى بار، وهو لا يتكلم ولا يجيب، ثم نكتشف أنه شخص وهمي. وفي قصة «مَن يصدق الرسائل؟»، يعرض الكاتب رسائل مخادعة لا يمسك بخيوطها إلا الراوي ذاته. الرسالة الأولى موجهة إلى حبيبته هند، وفيها يتحدث عن جريمة ومواراة جثة باحتراف شديد، ويشرح كيف أنّ الشرطة التي ستدهمه لن تكتشف شيئاً على الإطلاق.
أما الرسالة الثانية، فيوجّهها إلى حبيبته نوال ويحكي لها كيف أقنع هند بأنها شريكة في جريمة وهمية، وهكذا خلت الساحة لهما لممارسة الحب. أما الرسالة الثالثة، فيوجهها إلى حبيبته منى، ويخبرها أنّ الأولى تظن نفسها شريكة في جريمة قتل، والثانية تعتقد أنه تخلص من الأولى لكي يتفرغ لها، وهكذا ظلت الرسائل تتوالى وتنسخ كل رسالة جديدة سابقتها على نحوٍ يدوخ القارئ ويزجّ به داخل متاهة حقيقية. وفي نهاية القصة، نكتشف أن المرسِل لا يكتب هذه الرسائل إلا للتعبير عن وحدته التي تضعه في هذا المأزق النفسي العبثي. وفي مناسبة العبث، نجد الكاتب يوظف العبث باقتدار في عدد من قصصه، كما في «لا تصدقوا يوسف»: تبدأ القصة بتعريف الكاتب بنفسه ومواصفاته. إنّه مجرد هاوٍ.
ليس كاتباً محترفاً، ولم يحدث أن توطدت علاقته بشيء يعشقه. فقط يطلّ من خلف السياج على هذه الحديقة أو تلك. ويسرد الكاتب علاقته بالشعر ثم بالرواية. ورغم أنه يضع بعض الدواوين في مكتبته، إلا أنّه ليس قارئاً جيداً للشعر، أما الرواية فيقرأها للتسلية. لكنه ذات صباح وجد بجوار سريره رواية، وعندما فتح الصفحة الأولى فيها، قرأ جملة: «لا تصدقوا يوسف القعيد». كانت الرواية هي «القلوب البيضاء»، ولا يفوت السارد أن يوضح أنّ «الرواية ليست ممتعة، على الأقل ليست من الصنف الذي يستهويني ويستغرقني بالكامل». يعرض الكاتب الرواية بيسر من دون الشعور بأنّ هذا العرض «النقدي» مقحم. لكن القصة تأخذ بعداً عبثياً عندما تخرج بطلة القصة للكاتب، وتضعه في موقف محيّر فيصرخ: «لكم أن تتخيلوا فزعي! لسنا في عوالم ألف ليلة وليلة، وحواسي عاجزة عن استيعاب المشهد: فتاة ينشق عنها كتاب، ثم أنا مجرد هاوٍ، أقرأ الرواية فقط لأنسى أنني الساهر الوحيد في هذه المدينة النحاسية التي تتثاءب بُعيد الغروب». ونجد هذا العبث في قصة «تفاح الظل» التي يستأنس الكاتب فيها بإحدى الفتيات التي تصحبه إلى منزله فيمارس معها الحب. لكن هذه الفتاة كانت تحضر دوماً إلى منزله وهي تجرّ رفيقة لها كظلها، كأنها نصفها الآخر، إلى درجة يؤدي هذا الظل دور الشريك الطبيعي، أو الضمير المعلن الذى يشاهد كل شيء من دون مشاركة فعلية في شيء. ومن الممكن أن يدخل أو تدخل الفتاة الظل عليهما أثناء ممارسة الحب لتسأل أسئلة طبيعية تجيب عنها الفتاة الأصل بنحو عادي. وعندما تمرض الفتاة الأصل ولا تستطيع الحضور، يظلّ الظلّ حاضراً بقوة ليؤدي الدور الذي كان يؤديه الأصل باحتراف.
نتوقف عند القصة الأخيرة «عبدو المسعوف»، وهي تتحدث عن يساريٍّ تنصل من ماضيه والتحق بمعسكر السلطة. ورغم أنّ هذه الشخصية موجودة في كتابات سردية كثيرة، لكنها هنا تتجدد بنحو ناصع. هذا العبدو الذي أصبح وزيراً على جثة أفكاره القديمة، ألحق اثنين من رفاقه للعمل معه في الوزارة، ولكنه سرعان ما فصلهما محيطاً قراره بسلسلة من المبررات. يسترجع عبدو تاريخه المشترك مع رفاقه الذين سجنوا معه، وكيف كان مرتبطاً بسلوى ابنة أحد الذين استوظفهم في الوزارة. مبررات عبدو المسعوف وحدها تصلح بامتياز لأن تكون عنواناً لكافة الانتهازيين. حتى سلوى التي عاشرها وسكن معها في باريس عندما كان منفياً، لم يبرّ بوعده لها وتزوج «أم الخير» التي تؤدي دورها كزوجة وزير محترم. واللافت هنا هو التقنية التي أدار بها الكاتب قصته لتأخذ أبعاداً مشوّقة يصبح فيها القارئ شريكاً في بنائها. لكل هذه الأسباب، تُعَدّ هذه المختارات إضافة جيدة فى المشهد القصصي المغاربي والعربي عموماً.