لم يفت الإمام أحمد بن علي الدلجي في كتابه «الفلاكة والمفلوكون» الذي وضعه في القرن التاسع الهجري، أن ينظر إلى الفقراء بوصفهم طبقة يراد لها أن تؤمن بأقدار الله التي حكمت عليهم بالفقر، وأن يغضّوا الطرف عمّن يحتكر الثروة ليمعن في إفقارهم. والفلاكة هنا أكثر دلالة من الفقر، والمفلوك هو «الرجل غير المحظوظ المهمل في الناس لإملاقه وفقره». وهو مصطلح يعود إلى العصر المملوكي الذي عاش فيه المؤلف، الذي يرى أن الفلاكة تعبير عن الغربة والاغتراب في مجتمع ينحاز إلى الثراء وتتفرد ثقافته الرسمية بمفاضلة الغني على الفقير، في مركزه وحضوره الاجتماعي وسلوكه، وحتى في آخرته وحكْم السماء عليه.
الكتاب محاولة انقلاب على مفاهيم عصره ـــ وعصرنا إذا أردنا مقاربته ـــ ليس من باب التحيّز الأعمى للفقير، بل بنفي القدرية، وهو ما يؤكد علمية الدلجي وخطه الفلسفي والعقلاني، حيث يحمّل طبقة الأثرياء مسؤولية إفقار غيرهم وإبقائهم متذللين لهم للحفاظ على مستواهم الاقتصادي.
يسهب الكاتب في وصف حال المفلوكين، وتعداد آفاتهم، وفي مقدمها النزق، والعزلة عن الناس، ويؤكد أنه «متى استولى القهر والغلبة على شخص، حدثت فيه أخلاق رديئة من الكذب والتخبيب وفساد الطوية والخبث والخديعة...». ويحاول الربط بين القهر الذي تستحكم بالمفلوك وبين أوصاف اليهود، بحسب الدلجي الذي يحاول تفسير السلوك الاجتماعي لأتباع إحدى الديانات عبر التاريخ. من جهة أخرى، يستشهد برسائل الخلفاء إلى مؤدّبي أولادهم، ومنهم هارون الرشيد، وتيقظهم إلى مسألة خطرة بأنه إذا استحلى الابن الفراغ، فسيقوده حتماً إلى الفلاكة، وحينها يستهون به الناس ولا يقيمون لغضبه وزناً.
ويقرن الدلجي بين الغنى والتمدن، ويشدد على أن الاجتماع بين المفلوكين ومن هم أكثر فلاكة لا فائدة منه؛ لأن حكمة التمدّن مفقودة فيهما، وغاية الاجتماع بهما تضاعف الفلاكة وتكاثفها، خلافاً لاجتماع الأغنياء وتمدنهم.
ويتولع المفلوكون بالسفر والبحث عن حظهم المفتقد في أوطانهم، وربما تلاقت هذه النظرة مع مقولة الإمام علي: «الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن»، كما يتعلق المفلوكون بالأسباب المستحيلة كالنجوم والكيمياء والحرف الهوائية الضعيفة ومنها شهادة الزور. ويكشف الدلجي الأغنياء الذين يقاومون كساد الأسواق بالغش والاستعانة بوكلاء السوء والتحالف مع الملك، مستشهداً بقول النبي محمد: «ما دخلت السكة (النقد) دار قوم إلا دخلها الذل». وفي توثيقه للعلماء المفلوكين، ينبّه الدلجي إلى فلاكة مالية تتعلق بالفاقة، وفلاكة معنوية تتعلق بالقبح في الخَلْق والخُلق، مؤكداً تحققه من كتب المؤرخين في جمعه أسماء العلماء الفقراء وسيرهم. 134 عالماً وأديباً عانوا الفلاكة لرأي خالف السائد أو مخاصمة لولي وسلطان، ففضلوا العزلة أو الاعتكاف على الخمر منكبين على علمهم، وقد لا يفطن كثيرون إلى علوّ مكانة بعضهم في ثقافتنا وخلودهم، رغم ما تعرضوا له من تهميش أثناء حياتهم، لكن لا يخلو الأمر من إقصاء متعمد للبعض الآخر حتى يومنا هذا.
ورغم ما أورده الدلجي من براهين على رفض القدر كمسبب للفقر، ونقده للسلطة وأصحاب المال الذين يبذلون جهدهم في استغلال الفقر وترسيخه، إلا أنه عاد في نهاية الكتاب للدعاء إلى الله الذي انقطع الرجاء إلا منه، وحصل اليأس إلا من رحمته، بأن يعتق عنقاً من رقّ غيره.