لن يفاجأ رياض قبيسي (الصورة) إذا عرف أن دعوى رفعت بحقه، أو إذا سمع انتقادات تتعلق بأسلوب إجرائه للتحقيق الاستقصائي «افتح يا سمسم» الذي بثّته قناة «الجديد» يومي الأحد والاثنين الفائتين. مَن تابع التحقيق لن يشك للحظة أن قبيسي يعرف عواقب ما فعله، بل سيكون متأكداً من أن هذا الصحافي ارتكب ما ارتكبه من مخالفات مهنية وقانونية عن سابق إصرار وتصميم.
لا يمكن في هذه الحال إلا توجيه التحية لقبيسي الذي نفترض أنه يعرف ما يفعله، لكنه اختار الذهاب بعيداً من أجل تحقيق عمل صحافي ناجح وحقيقي بعيد عن الجمود والكلاسيكية التي بات يتصف بها إعلامنا. انطلاقاً من هذه الخلفية، وحرصاً على هذه التجربة، يصبح نقاش هذا العمل واجباً وخصوصاً إذا التفتنا إلى أنه لم يثر الضجة المتوقعة منه، إلا في الأوساط المعنية به مباشرة. بدا كأنّ مغارة علي بابا التي قال قبيسي إنه سيفتحها، لم تفاجئ أحداً. ومن سيتفاجأ إذا علم أن هناك أربعة موظفين في الجمارك يتقاضون الرشى من أجل تسهيل مرور البضائع؟ لكن لحظة، هل كان هذا كلّ ما قاله التحقيق؟ أم أنّه كلّ ما حفظه المشاهد؟
الإجابة عن هذين السؤالين أساسية للحكم على تحقيق «افتح يا سمسم» الاستقصائي. وسيكون محزناً أن نعرف أن الإجابة عن السؤال الثاني إيجابية، لأنها تنسف جوهر الاستقصاء الذي يعني في القاموس الصحافي كشفاً للفساد، ويعد بجعل «الحياة أفضل» بالنسبة إلى الآخرين كما ندرس نظرياً، بعيداً عن الإثارة. فأين «افتح يا سمسم» من هذا؟ لقد اختار رياض قبيسي فكرة ممتازة للعمل عليها والتقصي حولها، واستطاع أن يكشف الكثير من كواليسها غير المرئية لمن لا يعرفون شيئاً عن هذا القطاع. ولجأ إلى مصادر خاصة به، وأخرى رسمية، واستعرض آراء معنيين وخبراء ومتابعين. كما أجرى عملاً خاصاً بالتعاون مع آخرين ساعدوه في لعب أدوار من جهة، والقيام بالتصوير خلسة من جهة ثانية. هذا عدا مهاراته الشخصية وتحلّيه بالجرأة والحماسة. لكنه في المقابل، خرق قواعد أساسية يحرص الصحافيون عادة على مراعاتها، ومنها: حماية المصادر، عدم الاحتيال، عدم التصوير بشكل سري، عدم التشهير، عدم ذكر اسم المتهم إلا بعد الحكم...
صحيح أن الالتزام بهذه القواعد صعب لمن يرغب في كشف الفساد، لكن خرقها يوجب على الصحافي أن يقدّم نتيجة تبرّر له فعلته، فهل حصل المشاهد على هذه النتيجة؟ في النتائج المباشرة لعمل قبيسي، علمت «الأخبار» أن ابن احدى الشخصيات التي اتهمها التحقيق بتقاضي الرشوة وعرض صورتها، تعرّض لانهيار عصبي بعدما كان قد رفض الذهاب إلى المدرسة. في حين رفعت دعاوى قضائية بحق المصادر التي قامت بالتصوير خفية، وهي معرّضة للعقاب لأنها خالفت القانون فعلاً. هذا عدا عن قيام قبيسي فعلياً بمخالفة القانون من خلال التوجّه إلى الأشخاص مباشرة وتصويرهم قبل استئذانهم وبثّ ما قالوه، من دون أن ننسى مصير بقية الأفلام التي صوّرت ولم تعرض. يحصل هذا الخرق للخصوصية في مقابل حرص على عدم دوس الأملاك العامة. شطارة... لا تضاهيها إلا شطارة منح «حق الردّ» للمضبوطين بالجرم المشهود. طبعاً لم يكن قبيسي ينتظر ردّاً، بل استدراجاً لمن هم في رتبة أعلى، أو إحراجاً قد يكون في غير مكانه إذا كان الجميع مسلّماً بأن من جرى تصويرهم ليسوا إلا «الصغار» وأن علي بابا لا يزال مختفياً، ويمارس التهريب من دون رقيب، من دون أن يستطيع أحد من مصادر قبيسي تصويره متلبساً.
لذا يمكن السؤال عما إذا كان بإمكان قبيسي اللجوء إلى مواجهة هادئة، عوض الصدام الذي وصل أحياناً إلى حد الوقاحة (المطلوبة في هذا النوع من العمل، لكن عند الضرورة). لقد رأينا قبيسي يرفع صوته على الطريق العام، ليسمعه «الشاطر» ريمون، والمارّة أيضاً، وهو يقول: «أنتَ مصوَّر وأنتَ عم تقبض رشوة». ثم شاهدنا (بتعاطف؟) كيف يتعثّر الرجل بخطواته مديراً ظهره للكاميرا التي تلاحقه، رافضاً استعمال حقه في الردّ الذي منحه إياه الصحافي. كما رأينا جاره علي مرتبكاً في خطواته وحركاته وهو يتمتم «ممنونك، ممنونك، بدك تخرب لي بيتي»، وبشارة حائراً في تحديد عجزه عن الرؤية أو السمع، قبل أن يقرّر إنكار نفسه.
هؤلاء هم عملياً «الشطار» الذين لن يموتوا كما قال قبيسي في بداية الجزء الثاني من تحقيقه، «لكن سنلاحقهم وسنقبض عليهم». وبالفعل، لاحقهم إلى بيوتهم، بعدما كان قد أخبرنا أنه سيفعل ذلك ليصل إلى من يقف خلفهم، ثم عاد واكتفى بهم. نحن الذين استمعنا إلى حنا غريب (وهو ليس رئيس هيئة التنسيق النقابية) يكرّر في التحقيق: الموظف الفاسد زرعه سياسي فاسد. فتّش عما وراء الستارة.
علي بابا لا يزال مختفياً في المغارة، وكلمة السرّ لا تزال في حوزة قبيسي... فهل يفتح الباب؟








الميكرو لك

لست نادماً... والآتي أعظم!



نادين كنعان

بجزءيه، أثار التحقيق الاستقصائي «افتح يا سمسم» لرياض قبيسي موجةً من ردود الفعل المتباينة، رغم أنّها ليست المرّة الأولى التي تخرج فيها «الجديد» بتحقيقات مماثلة، إلّا أنّ التحقيق جاء مختلفاً عمّا سبقه. للمرّة الأولى، ظهرت وجوه «المرتشين» في مرفأ بيروت من دون تمويه، فكشفت هويتهم على الملأ. بعضهم اعتبر الخطوة جرأةً غير مسبوقة ونقطة إيجابية تسجّل لصالح «الجديد» وقبيسي معاً، بينما اعتبرها آخرون تشهيراً بأشخاص لم يثبت القضاء تورّطهم بعد، ونسفاً لأسس المهنية الصحافية. «إنّها إشكالية أخلاقية، لكن لو تبيّن لي أنّهم مجرّد موظفين عاديين، لما أقدمتُ على ذلك»، يقول قبيسي لـ«الأخبار». ويتابع مسؤول وحدة التحقيقات الاستقصائية في «الجديد»: «التحقيق جرى تحت إشراف «أريج» (صحافيون عرب من أجل صحافة استقصائية)، ومدرّبي هو مسؤول وحدة الصحافة الاستقصائية في التلفزيون الدنماركي». وفي ما يتعلّق بإحراج عائلات هؤلاء الموظفين، يعتبر الصحافي اللبناني الشاب أنّه «كلام فارغ»، مشيراً إلى أنّ «من يحرص على سمعة أبنائه عليه ألا يرتشي، وهم يجب أن يكونوا عبرة لغيرهم». ويلفت إلى أنّ الأشخاص الذين ظهروا في التحقيق «يتقاضى كلّ منهم أكثر من ألف دولار أميركي يومياً كرشوة، ويفوّتون على خزينة الدولة خمسة ملايين ليرة لبنانية كحد أدنى كل يوم». ويكشف أنّ بحوزته الكثير من المعلومات التي لم يذكرها وأنّه قدّم هذا التحقيق ليكون «برسم القضاء المختص». يحرص قبيسي على التزامه بأصول المهنية في عمله. يلفت إلى أنّه وثلاثة من زملائه في «الجديد» (رامي الأمين، رونا حلبي (الصورة) وليال بو موسى) يخضعون لدورات مستمرة حول الصحافة الاستقصائية في بعض الدول الاسكندنافية.
يفضّل قبيسي التكتم عما في جعبته من تحقيقات جديدة، لكنه سرعان ما يمازح قائلاً: «سنقضّ مضاجعهم من حيث يحسبون ولا يحسبون». وعند سؤاله عن هوية هؤلاء؟ يجيب: «كل من يعتبر نفسه معنياً... وما حدا فوق راسو خيمة».



وجهة نظر اقتصادية

بوصلة الفساد تُشير إلى رأس الهرم



حسن شقراني
تبلغ الإيرادات السنوية المعلنة لمرفأ بيروت 160 مليون دولار تقريباً. خلال العامين الماضيين، تكثّف الحديث عن الممارسات الشاذّة التي تُقزّم حصّة خزينة الشعب (!) من خيرات هذا المرفق الهام. ممارسات تؤدّي إلى هدر كبير يؤكّده الجميع، غير أنّ نوعية هذا الهدر تتفاوت كثيراً، وقد يتوه المراقب في معرض التصويب على اللعبة الحقيقيّة. أولاً، الإكراميات وهي ليست غريبة أبداً عن الإدارة العامّة في لبنان، فقد حوّلتها سياسة القضاء على الوظيفة العامّة وتشويهها إلى شرط أساسي لتحقيق معاملة ما. يكفي ذكر أن التفكير بالتصحيح الهيكلي لرواتب أكثر من 200 ألف موظف في القطاع العام بقي معلّقاً 15 عاماً!
ثانياً، الرشاوى. وهي لعبة التجّار (المخضرمين إجمالاً) مع الموظفين بهدف التهرّب من الضرائب والرسوم. هنا الأموال الفاسدة كثيرة، ولكن «يتم في كثير من الأحيان تضخيم المبالغ التي يُقال إنّها تذوب في دهاليز الفساد على المرفأ». يُعلّق أحد العارفين بتفاصيل الأمور في هذا المرفق « أعتقد أن الرقم الأكثر تداولاً، وهو 1.5 مليار دولار، ليس دقيقاً أبداً».
ثالثاً، وهنا الأهمّ «شبكة المصالح». حين نشرت «الأخبار» التحقيق عن تحالفات الأمر الواقع القائمة في المرفأ (الثلاثاء 3 /4/ 2012) تصاعدت أصوات المعنيين من وسط أصحاب المصالح وقالت بوضوح: «إذا لم التركيبة على هذا النحو ستكون بالتأكيد لصالح أطراف آخرين. هو خيار إذاً بين السيّء والسيّء، بإعتراف القيمين على اللعبة أنفسهم». تمتدّ تلك الشبكة من مركز إدارة الحاويات مروراً بقوننة عمل الشاحنات، وصولاً إلى المعايير المعتمدة لتخزين الحاويات على المرفأ بكلفة منخفضة. ويُلاحظ مراقبون في المرفأ أنّه يجرى حالياً تخصيص أراض كثيرة في حرم المرفأ لأطراف من تيارات سياسية معيّنة أو لرجال أعمال محسوبين على أحزاب تقليدية في السلطة، «رجل الأعمال ج . ع. هو خير مثال على هذا السلوك»، يُتابع المصدر نفسه. ليس غريباً أن تكون المرافق العامّة قد تحوّلت إلى مزارع يجري فيها تحويل سكّة الأموال العامّة من إتجاه الخزينة العامّة بإتجاه جيوب المنتفعين أو الشبكات التي يديرونها. في هذا الإطار تُشير مصادر مطّلعة إلى أنّ «المسؤول» (أو مكتبه) قد يعرض في بعض الأحيان صفقة يحصل بموجبها على مقطوعية شهرية في مقابل التغطية على عمليات تهريب، شرط ألّا تكون البضائع مخدّرات أو أسلحة.
بيد أنّ التهريب يحصل خارج إطار هكذا اتفاقيّات أيضاً. فجميعنا يذكر أن هناك من حاول تهريب معمل كوكايين متكامل عبر المرفأ!
المهمّ هو أنّ القضيّة لا تتعلّق بالمرفأ فقط بل تمتدّ إلى مختلف المعابر التي تؤمّن تبادل لبنان مع الخارج، وأنّ ما يُمكن إدانته على أنّه إكرامية – فرضها النظام للمناسبة – هو قطرة في بحر شبكة المصالح السياسية التجارية. تلك الشبكة نفسها هي التي تُتيح الرشوة لتهريب هواتف خلوية وتسجيلها «ثياباً بالية» مثلاً.