وجّه معشر العلمانيين والحداثويين نقدهم إلى حوارات التلفزيون السوري التي جمعت محمد سعيد البوطي وطيب تيزيني في الثمانينيات والتسعينيات، وإلى كتابهما «الإسلام والعصر: تحديات وآفاق» (1998). رأى المنتقدون أنّ المفكّر الماركسي خانته جرأته أمام الشيخ الأشعري، والأخير استغل صلته بالمقدس في مواجهتهما الجماهير.
ماركسيون آخرون ساووا بين المتناظريْن، ورأوا أنّ «ماديّة رفيقهم خلطت المنظورين الاعتزالي بالأشعري، القديم بالمحدث، النسبي بالمطلق، لتنتج أيديولوجيا تلفيقية مؤداها إنتاج أيديولوجيا السلطة»، ليتخلى لاحقاً هؤلاء «الجذريون» عن ماركسيتهم، وينضموا إلى تنظير ليبرالي ينشد حرية بلادهم مدعوماً من الرجعية النفطية. لم يلتفت أحد إلى أنّ الأزمة الحقيقية التي يعيشها الأشاعرة (منهم الشهيد البوطي)، تتشابه مع هزيمة ثقيلة تعرض لها المدافعون عن قيم التنوير والحداثة في وطننا، على يد مشروع واحد تقوده الرأسمالية متحالفة مع السلفية الوهابية، وأنّ السوق الجديدة تطرد أي عقلانية دينية مثلما ترفض كل توجه فكري يفكك خطابها الاستعماري وآليات تحكمها بالشعوب والثروات. المنشدون للحرية في سوريا سيتذكرون مواقف البوطي المتشددة ضد إعادة إصدار رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر»، أو دعوته لوقف عرض «ما ملكت أيمانكم» لنجدت إنزور... لكنهم يتغافلون أن البوطي لم يُكفّر فرداً خلافاً للإسلامويين الجدد الذين يتملكون الفضاء والمنبر والسلطة ويقاتلون من أجلها. مفارقة كبرى أن يتوقف التاريخ ألف عام عند انتصار الأشاعرة على المعتزلة (أهم حركة تنويرية دينية) والحنابلة (أبرز دعوة لتجميد العقل)، لكن المفارقة الأكثر إيلاماً تتمثل في اجتياح السلفية اليوم، وسعيها لتدمير الإنسان، وبذلك تنتهي التوفيقية التي اختطها رموز الأشاعرة بين السلطان والفقيه درءاً للفتن، لندخل عصر التكفير والفوضى باسم سلطان وفقيه آخريْن.
جاهد البوطي لمنع احتكار جماعات الإسلام السياسي لتمثيل الدين، ورفض رفعها السلاح في وجه الدولة في أحداث الثمانينيات كما اليوم، معترضاً على ولادة مرجعية دينية خارج إطار السلطة السياسية، وهو ما يحصر دور رجال الدين في الجانبين الثقافي والاجتماعي. لذا فحدوث تغيير حقيقي في بنية النظام سيتبعه إصلاح المؤسسة الدينية، بينما يضعنا تنامي الإسلام السياسي بقيادة الإخوان إلى أدوار مزدوجة للفقيه ومنحه تأشيرة دخول للسلطة والتحكم.
النظرة النقدية لمسيرة البوطي لا تحجب مقاربة سوسيوثقافية لتاريخه. أصوله المختلطة (أب كردي وأم تركية) جعلته أكثر تفهماً لفيسفاء بلاده، لا تحكمه خلفيته الصوفية فحسب، إنما انحياز لسوريا تصهر مكوناتها الطائفية والإثنية، في مدنية تحفظ تعدديتها ولا تعترف بتموضع أبنائها في هويات فرعية متنافرة، فهويته الوحيدة هي سوريته التي لو خسرها زال وجوده. «وجود» صاغه صبر الشيخ في الثبات على آرائه، ولم يتشكّل وجدانه بمنأى عن ذلك حين ترجم ملحمة الحب الكردية «ممو زين» في بداية حياته، وربما لم يغب عن مخيلته مشهد بطلها ممو وهو يحتضر في أحضان حبيبته زين ويناجيها عشقاً بعد سجنه عاماً على يد أخيها الأمير بسبب وشاية الحسّاد.
فارق ممو الحياة وسار الآلاف في جنازته، ومعهم زين التي ظلت تبكي فوق نعشه حتى غدت جثة باردة، لتدفن مع عشيقها في قبر لا يزال معروفاً حتى يومنا في جزيرة بوطان وسط نهر دجلة، مسقط رأس البوطي، كما يروي الشاعر الكردي أحمد الخاني في ملمحته الشهيرة. لم يدر في بال الفتى ذي الرابعة وهو يلجأ إلى دمشق مع والده أن مدينته ستشهد أشهر سجالاته مع أعلام الفكر والفلسفة والشريعة، وسيلقى حتفه على منبر أحد مساجدها ثمن رأي مخالف، ويسجى جثمانه إلى جوار ضريح صلاح الدين الأيوبي الذي تحتمل شخصيته هي الأخرى قراءات متعددة.