في الطبقات الخمس من مبنى «إذاعة لبنان» في محلة الصنايع في بيروت الصامد منذ ما يقارب نصف قرن في وجه نيران حروب الداخل والخارج، تشتاق الجدران ربما إلى من كانوا بالأمس هنا يمشون في أروقتها أيّام «العصر الذهبي». وحشة زادت يوم نفضت الاستوديوهات عنها اللباس القديم، وارتدت حلتها الجديدة عام 2007 على أيدي شركة «شتودر» السويسرية. هذا في الشكل، أما في المضمون، فالعاملون في الإذاعة منذ نشأتها يؤكدون بحسرة أنّ الروحية داخلها تبخّرت: «تغيّر العالم من حولنا جرّ معه تغيراً في الداخل». تأسست الإذاعة اللبنانية عام 1938 تحت اسم «راديو الشرق» في مبنى السرايا، ثم انتقلت عام 1958 إلى الصنايع. وعلى الرغم من أنّ الإذاعة التي تميّزت في الستينيات والسبعينيات وتخطت حدود الوطن ومثلت مختبراً للعديد من الوجوه اللامعة للوصول إلى الشاشة الصغيرة، وتحديداً «تلفزيون لبنان»، إلّا أنّها ما زالت تتنفس من أرشيف مهول. أرشيف وُصف بالأضخم بين المكتبات الصوتية في الشرق الأوسط، وقد أجريت عليه بعض التعديلات البرمجية لتلامس الحاضر بكل تشعباته، وفيما يؤكد مدير الإذاعة محمد إبراهيم لـ«الأخبار» جزءاً من هذا الواقع لجهة الاستفادة من هذا المخزون والإرث الثقافي والفني والإبداعي، يلفت إلى أنّ الإذاعة لا «تغني على الأطلال، ولا تعتاش على عظام المتوفين»، بل تنتج وتنافس في المهرجانات وتحديداً «مهرجان الأغنية العربية والمقطوعة الموسيقية» حيث حازت المركز الأول ثلاث مرّات متتالية.
في زمن الاصطفافات وشدّ العصب، تقف الإذاعة على الحياد كالعادة. هي التي صمدت إبان الحرب الأهلية ووحدت كلمتها في وجه التقسيم وأبواق الطائفية، ها هي اليوم تختبئ تحت جناح الدولة عبر بوابة وزارة الإعلام، وتُمنع من بث كل ما له علاقة بالسياسة عدا بعض المواجز التي تكتفي بعرض الأخبار كما تردها من «الوكالة الوطنية للإعلام» من دون تعليق أو تحليل. كذلك بحكم القانون، يحظّر بث الإعلانات التجارية وكل ما له صلة بالترويج لكون الإذاعة عامة لا تجارية. مع العلم أنه عُمل منذ سنوات طويلة لتحويلها الى «مؤسسة تجارية ذات منفعة عامة»، وهذا بالتأكيد يحتاج إلى إجراءات طويلة ترهق كاهل العاملين فيها، وتحديداً المتعاقدين مع تحمّلهم البيروقراطية «القاتلة» التي تعيق حياتهم المهنية والمادية مع هذا الدوران بين المكاتب الرسمية وندرة الموارد المالية. في عام 2009، تسلم محمد ابراهيم مهمات الإمساك بالإذاعة، مفتخراً بإدخاله روحاً جديدة اليها عبر تحديث البرمجة وتكثيف البث المباشر لخلق المزيد من التفاعل مع المستمعين والوقوف على قضاياهم على رغم من أن تردداتها (98.1/ 98.5) لا تغطي جميع الأراضي اللبنانية لأسباب عدة، أبرزها الكسل الإداري وتضررها جراء الحرب، لكن ما حجم هذا التفاعل إزاء المنافسة الشرسة غير المتكافئة ونشوء الإذاعات المطّرد؟ يقول ابراهيم إنّ المستمع الذي تصل اليه الإذاعة «لا يستطيع أن يحيد عنها، فحيث هي مسموعة هي ناجحة»، متحدثاً بالكثير من المثالية عن طبقة واسعة مكتومة الصوت «بدها وطن» ولا تُمثل ما يرّوج له الإعلام من «حالات شاذة يجري تعميمها». طبقة تحتضنها الإذاعة وتتكلم باسمها وتبعدها عن التطرف والتخندق الطائفي. في الزمن الرقمي الذي واكبته الإذاعة استحداثاً في استوديوهاتها السبعة ونسخ الأرشيف مع الاحتفاظ بالنسخ الأصلية، لا يزال صداها غائباً يعجز عن الوصول الى شرائح عدة. مع ذلك، والتحاقاً بركب التكنولوجيا، قررت الإذاعة (ولو متأخرة لسنوات) العمل على إطلاق موقع الكتروني خاص بها يبصر النور في الأسابيع القادمة. هذه التحديثات التي نفذتها الشركة السويسرية، أرفقتها بتدريبات للعاملين للتكيف مع التكنولوجيا التي داهمتهم من دون استئذان كما تقول مديرة البرامج سامية فغالي في حديثها مع «الأخبار». رافقت فغالي الإذاعة منذ عام 1975 وعايشت جيلين مختلفين، وها هي تمسك هاتفها الخلوي، وتألف العمل على الإنترنت وتتكلم عن تحديث البرمجة كل ثلاثة أشهر وضرورة تضمنها لبرامج تحاكي روح الشباب وتوعيته وتستذكر الماضي وأمجاده، داعية الى ترك الأحكام المسبقة على الإذاعة والاستماع اليها من دون موقف مسبق منها، قبل أن تقول سريعاً «أعطوها فرصة».
تستهل الإذاعة نهارها وتنهيه بالنشيد الوطني وبعض كلمات الفرح والسلام، وما بينهما نوستالجيا العظماء الأموات والأحياء، وحاضر الشباب... فهل من يستمع؟