بعد قرابة 80 عاماً، عاد فيلم باول ب. دفلين The Screen Traveler: Damascus and Jerusalem «مسافر الشاشة: دمشق والقدس» (1938 ـــ 11 د.) إلى الحياة. الشريط الذي صوّره ووضع السيناريو والتعليق الصوتي له دفلين نفسه، جزء من سلسلة وثائقيات قصيرة من «سينما الرحلات»، شكّلت باكورة الإنتاج المستقل للأميركي أنديه دي لافارا (1904 ـــ 1987) في ثلاثينيات القرن الفائت.
«مسافر الشاشة» تكلّف عناء الترحال إلى جزر وبلدان مثل: سومطرة، بالي، فيليبين، مصر، فلسطين وسوريا. رصد الحياة اليومية في جغرافيا غير مألوفة للمشاهد الغربي، مؤفلماً ذاكرة بصريّة قيّمة، ما زالت تدرّس أكاديمياً حتى اليوم. السوريّون اصطادوا الفيلم على يوتيوب، ليلقى رواجاً واسعاً على السوشال ميديا. إنّها دمشق الثلاثينيات في النصف الأول من الشريط، قبل الانتقال إلى القدس. دفلين وفريقه يشعرون بالدهشة من حداثة «ساحة السرايا» (ساحة المرجة حالياً)، التي تضمّ مباني حكوميّة كدار العدليّة ودار البريد. سريعاً، تنتقل الكاميرا إلى الأحياء القديمة، لتسجّل الجانب الشعبي وتفاصيل المعيشة. أقدم عاصمة في التاريخ تبدو حيويةً، مفعمةً بالنشاط والوجوه والتنوّع. الجامع الأموي مفتوح للمؤمنين وغير المؤمنين. صانع العرقسوس يسقي العطشى. باعة الكباب الشهي والبرتقال الطازج والصابون الرخيص وخبز التنّور يؤمّنون لقمة العيش. القوافل التجارية تدخل المدينة بهدوء. الدمشقيون ودودون. يبتسمون للكاميرا فيما يدخنون النرجيلة في المقاهي. هذه شام الانفتاح والتعايش والتنوير، لا كما تظهرها مسلسلات البيئة المتخلفة.
وثائقيات تظهر دمشق الانفتاح والتعايش والتنوير، لا كما تظهرها مسلسلات البيئة المتخلفة

فيديو آخر وجد طريقه إلى يوتيوب، إلا أنّ موقّعه مجهول حتى اللحظة. يوم 9 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1990، وضع أحدهم، مشكوراً، كاميرا الفيديو الثقيلة على كتفه، متجوّلاً وسط دمشق. بدأ بناصية «شارع الحمرا»، لينتقل إلى ساحتي المحافظة والمرجة، وصولاً إلى الجامع الأموي عبر سوق الحميديّة. الناس يعبرون أمام العدسة بهدوء. السيّارات تقطع الشوارع المزدحمة بتؤدة. آنذاك، لم يكن التصوير الخارجي متاحاً لمن لا يمتلك تصريحاً واضحاً. لا مزاح في هذه الجريمة، التي تخلّ بأمن «القطر العربي السوري». التسعينيات تعني الترجمة الأمثل للصبغة البعثيّة على كلّ شيء، وأيّ شيء. القبضة الأمنية المطمئنة، في بلد رتيب يعيش وفق روتين محدّد. نشرة الثامنة والنصف مساءً لم تعتد إضافة الكثير على أخبار «استقبل وودّع»، تمهيداً لمسلسل السهرة وختام «غداً نلتقي». في سوريا اليوم، يبدو هذا ضرباً من الخيال العلمي، وربّما حلماً عبثياً في مخيّلة المنفصلين عن الواقع. ثمّة من لم يعرف سوى الحرب والقصف والحصار وحمّامات الدم. هكذا، تحمل تعليقات المتابعين على السوشال ميديا كثيراً من النوستالجيا والتحسّر على ما كان. شجن الحنين إلى دمشق (سوريا) الأمان والبساطة والسكينة.
الانتشار الواسع للمقطعين، تأكيد آخر على ضرورة توثيق اليومي والراهن، بعيداً عن التأريخ السياسي الموجّه. برهان على ضرورة حفظ الذاكرة البصريّة الحقيقية لشعب كامل. وجوه البسطاء لا تكذب. الأسفلت لا يعرف الخداع. عمر أميرلاي وسعد الله ونّوس لم يكونا بوارد التسلية عندما أنجزا «الحياة اليوميّة في قريّة سوريّة» (1974). برنامج «التلفزيون والناس» الأسبوعي الذي بدأ عبد المعين عبد المجيد في إعداده وتقديمه وإخراجه عام 1988، حقق نجاحاً مدوّياً لأكثر من عشرين عاماً على شاشة التلفزيون السوري. ببساطة وعفوية، قابل عبد المجيد كل شرائح المجتمع، راصداً تفاصيل الحياة والجلسات والمشاوير: «جاية التلفزيون... جاية لعندك وين ما تكون». يُضاف إلى ذلك بعض أعمال الدراما التلفزيونيّة، التي اعتمدت التاريخ الاجتماعي، ولم تستسلم لأكوام الرداءة. تبقى ثلاثية «الحصرم الشامي» (تأليف فؤاد حميرة، إخراج سيف الدين سبيعي) المأخوذة عن كتاب «حوادث دمشق اليومية» للبُدَيري الحلاق، مثالاً بارزاً على ذلك.
التلفزيون السوري يمتلك كنزاً من هذا النوع، ضمن أشرطة يأكلها غبار المستودعات. فليفرج عنها. فليُمنَح التسجيليّون والمدوّنون حريّة التصوير في الشوارع والأزقة من دون قمع أو خوف. على الأقل، ليكن إصدار الإذن سهلاً وسريعاً. لا جدوى من الرقابة والمنع، مع التطوّر الهائل في كاميرات الموبايل الموجود في يد كلّ فرد. «نحن هنا» هويّة نريد تركها للآتين لاحقاً. هذا كل ما في الأمر.