على الرغم من وجود أرضية خصبة لدراسة الاستثمار في الإعلام، إلا أنّ الأوساط البحثية والأكاديمية اللبنانية والعربية تغيب (أو تغيّب نفسها) عن هذا المجال. أستاذة الإعلام في «الجامعة اللبنانية» نهوند القادري أعدّت بحثاً تحت عنوان «الاستثمار في الإعلام... النموذج اللبناني» (يصدر قريباً عن «مركز دراسات الوحدة العربية») الذي أقامت ندوة حوله منذ فترة بدعوة من «تجمّع الباحثات اللبنانيات». أنجزت الدراسة بدعم من «لجنة إدارة البحث العلمي في المعهد العالي للدكتوراه» في الجامعة اللبنانية، بمساعدة 17 مساعد باحث من طلاب «الماستر» تولّوا الشقّ الميداني منه. تولي الدراسة أهمية كبرى للشق النظري، يليه العمل الميداني الذي شمل مقابلات في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، معتمداً على أرشيف صحافي ضخم. توزّعت المقابلات بين 30 شخصية من رؤساء مجالس إدارة، و50 إعلامياً، ومجموعة من أصحاب شركات الإعلان.
كما شمل البحث عدداً من منظمات المجتمع المدني، فيما أقيمت حلقات نقاش مركزة مع عيّنات من المواطنين من مختلف المحافظات. تضمين البحث كل هذه الأطراف كان مقصوداً للتأكيد أنّ المستثمر ليس اللاعب الوحيد في القطاع الإعلامي، بل إنّ هناك أطرافاً «ذات سلطة وتأثير، وتقدم للمؤسسة الإعلامية مورداً نادراً»، وفق ما أكدت القادري لـ«الأخبار».
انطلقت الباحثة من الحاجة إلى البحث في الاستثمار الإعلامي ودوافعه وتعقيداته، في ظل التهافت على العالمين الرقمي والاتصالي، طارحة إشكالية حول إمكان رسم الحدود بين الاستثمار الاقتصادي والاستثمار السياسي والثقافي والاجتماعي. كل ذلك في ظل الكثير من التعقيدات والتحديات، أبرزها ثقافياً وتكنولوجياً. واجهت القادري صعوبات كثيرة في الوصول إلى المستثمرين الذين تبيّن الدراسة أنّ معظمهم «يقعون ضمن الأسماء الوهمية التي تتغير في كل فترة ولا يصرّح عنها في الجريدة الرسمية» خلافاً للقانون. شكل آخر من المخالفات يتمثّل في الالتفاف على القانون، إذ يجب على المالكين أو المساهمين أن يكونوا من الجنسية اللبنانية، الأمر الذي يُضرب به عرض الحائط على أرض الواقع.
بداية، تعرّج القادري على بروز فكرة الاستثمار في العالم تزامناً مع صعود ما يسمّى «صناعة الترفيه» في البلدان الرأسمالية. أطلقت تلك البلدان العنان لاقتصاد السوق عبر دخول شركات عملاقة ميدان الاستثمار الإعلامي، لكن من أبرز إيجابيات هذه الخطوة، برأي القادري، هو «إفراز تصحيح ذاتي لأي خلل قد ينشأ من خلال خلق أجهزة رديفة تمارس دور الرقيب».
بعدها، ينتقل البحث إلى العالم العربي حيث تنامت آليات الاستثمار المترافقة مع الفورة النفطية ونشوء الاقتصاد الريعي. بات الاستثمار هاجساً تتداخل فيه اعتبارات عدة تراوح بين الشخصي والطائفي والسياسي. هناك، أُعطي لثالوث الدين، والسياسة، والترفيه الأولوية المطلقة في نوعية الإنتاج. ويزيل البحث «النقاب» عن الشركات الخليجية الخاصة التي تدّعي الاستقلالية، قبل أن يتضح أنّها ليست سوى امتداد للعائلات المالكة، فيما توضع في الواجهة أسماء توحي بأنّ السلطات الرسمية تتيح حرية الاستثمار.
في القسم الثاني، نعود إلى المشهد الإعلامي اللبناني المتداخل مع الخليجي، وذي حجم ضئيل جداً، مقارنة مع الكمّ الهائل من الفضائيات العربية. تعاني القنوات اللبنانية من «التباس في الهوية الوطنية»، كما أنّ غالبيتها تدخل في شراكة غير متكافئة مع الرأسمال الخليجي (علناً أو في السر). الأهم من ذلك هو توزيع المشهد الإعلامي على شكل محاصصة طائفية ومذهبية، إضافة إلى التكتلات بين الإذاعات والقنوات التلفزيونية، وبين المطبوعات نفسها. مشهد يعاني من مشاكل عدة، أبرزها على صعيد القوانين، وخصوصاً لجهة منح التراخيص وتطبيق الأحكام، وغالباً ما تحكمه الاستنسابية. مشكلة أخرى يواجهها هذا القطاع في بلاد الأرز هي محدودية سوق الإعلانات وسيطرة الاحتكارات الكبرى فيه والمصالح السياسية، ما انعكس خللاً واضحاً في المؤسسات الإعلامية. خلل زادته استنسابية تطبيق القوانين تشوّهاً، كما حدث في إبرام عقود مؤقتة مع الموظفين والتأخر في دفع الرواتب، فضلاً عن موجة الصرف التعسفي المرشحة للازدياد، وتحوّل بعض الشركات من خاصة إلى مساهمة («السفير» في 2011). هنا، يطرح البحث تساؤلاً حول إمكان بقاء هذه المؤسسات في ظل الأزمات الاقتصادية ونشوء بدائل من الإعلام التقليدي، والحاجة إلى الجنوج نحو التخصص. في الجزء الميداني، تركّز البحث على الرهانات الاجتماعية التي تشمل الحديث عن الأمان الوظيفي والإدارة الرشيدة وسياسات التوظيف وشروط العمل والتكافؤ، والعلاقة مع الممولين. عمل قام على استصراحات لرؤساء مجالس الإدارة كبديل من مقابلة المساهمين الذين بدوا «عاجزين عن إدارة التناقضات، ولا يملكون خطة لمخاطبة الجمهور» في مقابل تبرير الإعلاميين لهفواتهم، ما أظهر «قلة خبرة في تعاملهم مع الأزمات». أما المعلنون فعبّروا عن غاياتهم براحة، فيما اعترف الجمهور بأنّ ضعف الثقافة لديه هو سبب إهمال الوسائل الإعلامية للتعاطي مع المسؤولية الاجتماعية. تؤمن القادري بأنّ هذه الدراسة ستدفع نحو «بلورة مفاهيم تؤدي إلى تغيير السلوك»، وخصوصاً أنّها في الخلاصة تشدد على ضرورة إعادة المستثمر النظر في سياسة «الاستثمار الاعتباطي»، تاركةً الأسئلة مفتوحة إزاء استمرار الأزمة الاقتصادية والارتكابات الأخلاقية المهنية في ظل تشابك الاقتصاد والدين والسياسة.