القاهرة | «كيف يستطيع شخص ألا ينظر داخل نفسه؟» هكذا تساءل ريكاردو ريس في مقدمة ديوان «الراعي العاشق» لألبرتو كاييرو. لم يدُر في خلَد أحد أن يكون السؤال أصيلاً وحقيقياً إلى درجة نكتشف أنّ كاييرو وريس شخصيات عاشت داخل روح الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا. المفاجأة نفسها التي نعيشها مع بلوغ الصفحات الأخيرة من «سماء أقرب» (دار ميريت)، فاللعبة التي منحنا مفاتيحها الشاعر والكاتب الزميل محمد خير منذ بداية الرواية التي تبدو «محروقة» ومكتَشَفة، انقلبت في النهاية وبقواعد اللعبة نفسها.
يوقعنا خير في شرك الحيلة التي نسجها ببراعة، حتى نتساءل من يكتب من؟ وإلى أي مدى يمكن أن ينظر الكاتب داخل نفسه؟
ما يتراءى لقارئ الرواية مجموعة من الحيوات، تعيش خواءها وآلامها من دون مقاومة. نلتقي أكرم المهزوم في حياته الخاصة المتخلي عن عمله. خيبات إثر أخرى يعيشها باستسلام لا يقاومه إلا ظهور نادية حبه الجامعي القديم، ومشروع الرواية الذي يلوح في وجه خيباته. وهناك مازن المصور الناجح، وعلاقته بلمى، ثم الحياة المستقرة والهادئة التي تحيد عن سياقها مع ضياع عينه بسبب شجار متعلق بانتخابات ما! لا تتقاطع الحكايتان عند نقطة التقاء، إلا محض توقع مسبق للحيلة المنسوجة، فأكرم يكتب مازن، واضعاً فيه كل ما لم يحققه من نجاحات، ثم منتقماًَ من نجاحاته بمنحه إعاقة دائمة. يعيد أكرم بذلك صناعة الحدث بنزعة انتقامية، يكتب تاريخاً لم يحققه، وتمضي الحياة فيه برتابتها وثقلها، ومازن يتجرّع آثار الحادثة، فاقداً لمى بعد فشله الجنسي معها. هكذا تمضي بنا المخيلة والأحكام إلى أن نصل إلى صفحات الرواية الأخيرة لتحيلنا على بدايتها. في روايته «عام وفاة ريكاردو ريس»، يقف ساراماغو عند حياتين، ويعيد صياغة وعيهما ومصائرهما. بيسوا الذي يموت بينما شخصيته الخيالية فرناندو بيسوا التي تقرّر البقاء قليلاً لا تعرف أنّها محض خيال في رأس آخر «أنا الوحيد الذي يستطيع أن يملأ المكان الذي كنت تشغله، لا يمكن لأي حي أن يحل محل ميت. ليس أي منا حياً حقاً، ولا ميتاً حقاً». لكن مهمة خير تبدو مختلفة، إنها مهمة استجلاء الحقيقة عبر تغييبها، والظهور بأكثر من شكل، وتقويم الفرص لاختيار الأليق منها ربما. المضي بخط مستقيم نحو الموت هو نهايتنا الحتمية، فما ضير اللعب قليلاً، والعودة إلى الحياة بصورة أخرى، ثم مع اقتراب النهاية ثانية، نعود إلى الصورة الأولى من دون الوقوف عند نهاية واحدة، أحلامٌ تفرض سطوتها فتغيب عندها الحدود الفاصلة بينها وبين الواقع «لو كان هذا حلماً، فكيف يبدو الواقع؟» يقول مازن. الأحداث هنا ليست ماضياً، بل هي حاضر متكرر الحدوث، تبدأ بمجرد حدوثها، وتستمر في زمنية محايدة. لا يدرك بطلا الرواية أنّ كلاً منهما صنيعة الآخر، لكنهما يشتركان في المدينة التي تجمعهما بكل ما فيها من حياد جاف، أعمارهما متقاربة، والزمن يضمهما رغم اختلاف حقيقتيهما. يشتركان في «انتظار ما سيأتي» فأكرم مسافر لمحاولة بدء حياة جديدة، ومازن قرر علاج إعاقته وكل تداعياتها النفسية بالكتابة.
أثناء قراءة الرواية، تشعر بأنك إزاء تدفق ثابت رتيب يصل إلى الملل في مواضع قليلة، وضمير الغائب المكتوبة به حكاية مازن، والمتكلم المكتوبة به حكاية أكرم أوقعانا في يقين توقع نهاية الرواية، حتى «بدت لعبة لطيفة» كما قال الكاتب على لسان بطله مازن.