من على إحدى شجرات يرقوب (قرية متخيّلة) في جبل لبنان، رأت سهام كل شيء: أجساداً تئن، وأخرى ممددة على الأرض، أو متدلية على حواف النوافذ، على ظهرها أو على بطنها، في سكون لا يخترقه سوى طنين الذباب. ينحني كلب على جسد الصغيرة ندى ليشم عنقها المفتوحة ويلعقها. عقد من دمٍ يخنق حنجرة جثة والدة سهام المتروكة في الجزء المظلم من الحظيرة، عارية حتى مستوى البطن. في المنزل، قطع الليغو مبعثرة على الأرض. الجدة ممددة على الأريكة، الجد في كرسيه بلا حراك وقد مزّقت الرصاصات جسديهما.
الوالد مستلقٍ في المدخل، على سجادة من دم وإلى جانبه بندقية صيد. في المطبخ، تطفو الخضروات على الماء بالقرب من العمة ميرنا المنهارة على الطاولة. تجد سهام أنّ الحياة لم تفارق جسد كريم المختبئ في جُرن الغسالة، وسط الألبسة التي تفوح منها رائحة كريهة كرائحة البراز. عندئذٍ، يبدأ الهرب المجنون نحو البحر فيما عناصر الميليشيا في الجوار.
يرقوب ستسكن سهام إلى الأبد، لا يفصلها عن العالم سوى لوح من زجاج. تمرّ الحرب والسنون في مدرسة داخلية للراهبات حيث تُنفى «الخوتة» سهام من الحياة وتسبّب «العار» لشقيقها الذي ترعاه كما لو أنّها أمّه. الألم قوي إلى درجة لا تستطيع مشاركته مع أحد، وعالَم الراشدين متوحّش. مشرفات قاسيات لا يأبهن لمعاناة سهام التي تدفنها في جسدها كما تدفن حياتها الجنسية التي تفتّحت للتو. هذا الجسد المقيت يطارده جسد الأم المضرّج بدمائه ووجه ماهر بقّال بلدة بيرناي المجاورة الذي كان يمازح سهام دوماً وهي صغيرة. ماهر إياه وصل مع عناصر الميليشيا إلى منزل والديها. كان يضع عصابة رأس رمادية ودفع والدتها إلى الحظيرة. تعرّفت إليه على الفور... ستتآكلها رغبة الانتقام في حياتها وستتحمّل من أجلها الاذلال، والنبذ، والوحدة، وسخط المعلمات وعظات الكاهن بـ «أن نغفر لمن أساء إلينا».
في La levée des couleurs (دار آرليا)، يسحرنا رامي خليل زين بموهبته الروائية الفذّة والفريدة. يفتننا ببراعته ووصفه ويمسنا من خلال القصة المأساوية التي عاشتها شخصيته والمشاعر المتناقضة التي تحرّكها: الحب، الكراهية، الألم، السماح، الانتقام، الرغبة، النبذ... في حين لا تلقى يتيمته أي تعاطف. هي يتيمة. كل الشخصيات يتيمة بمعنى أو بآخر، إنّها متروكة لبلدٍ حيث نغنّي بحماقة كل صباح النشيد الوطني، ونرفع الألوان في «كرنفال» وطني لا يسهم إلا في إيقاظ الغرائز المتوحّشة، لتشكيل كائنات تتقاتل أو تطبّق شريعة الغاب من دون تردد. يتطرق الكاتب الفرنكوفوني بشكلٍ موجز إلى دور القوى الدولية والإقليمية في الحرب الأهلية لصالح مساءلة اللبنانيين عن دورهم الأساسي في هذا الجحيم الذي عشناه 15 عاماً. يخرج زين من إطار القراءة الروتينية الرجعية والعقيمة لخرافة المؤامرة في هذه الحرب.
تتناول «ارتفاع الألوان» ازدواجية الفرد وقصة بلدٍ في طريق الانهيار. المعلومات التاريخية بسيطة وموجزة لصالح التركيز على ذاك الجرح المفتوح والغائر. جاء «اتفاق الطائف» ليشطب الماضي تماماً كما مُحِيَت القرى من دون ضجة. يدين رامي زين قانون العفو العام (أو بالأحرى فقدان الذاكرة؟) الذي أصدره ملوك الحرب الذين يتقاسمون اليوم مكاسب الدولة من دون أن يقدموا كلمة اعتذار واحدة... هؤلاء هم رؤساء الدولة وقادة المجازر. أما مئات آلاف المدنيين وضحايا المذابح والتعذيب والتهجير، فقد تُرِكوا لماضيهم... مع «ارتفاع الألوان»، يملك رامي زين جرأة الحفاظ على الذاكرة بل استعادتها بوصفها السبيل الوحيد للخلاص.



ثلاثية الشرق

«عشت الحرب اللبنانية وما زلت أعيشها، ومَن صنعوا تلك الحرب هم القائمون على شؤوننا اليوم». هكذا قال مرة رامي خليل زين (1965) في مقابلة أجرتها معه «الأخبار» (28/10/2008). روايته «ارتفاع الألوان» هي خير تجسيد لوجهة نظر الكاتب اللبناني الذي قدّم بعمله ما يشبه ثلاثية عن الشرق الغارق في دوامة الدم والعنف: في روايته الأولى «تقاسم اللامنتهي» (2005) كتب عن الصراع العربي الاسرائيلي، وفي «حطام السماء» (2008)، كتب عن الاحتلال الأميركي للعراق. وأخيراً، جاءت «ارتفاع الألوان» لتنكأ تلك الذاكرة المسكونة بالجراح.